السبت“ 20 أبريل 2024 - 04:54 ص - جرينتش

شروخ في جدار الوطن..ملامح مرحلة جديدة من الضياع العربي وكتلتين عربيتين (13)


هل يرى الأصدقاء والصديقات ملامح تشكل الكتلتين على مرمى البصر ؟..

ما أطول رحلات الضياع العربي! وما أطول أيامها ولياليها، تتشابه المؤامرات وتتطور الأساليب والوسائل وتختلف الوجوه والأسماء، ومازالت تلك العقول التي قادت في الماضي سفينة التخلف والاحتراب العربي لستين سنة مضت منذ ثورة 1952 في مصر حتى 2012م، هي ذاتها التي ترسم من جديد الملامح والنذر للحرب العربية الجديدة، وأرى ملامح تشكيل محورين عربيين جديدين،..

المحور الأول: القيادات الجديدة لدول الربيع العربي الثورية التي تمسك قمرة قيادة الحشد الجماهيري، وتناضل لتحويل الحياة السياسية في شعوبها للنظام الديموقراطي الذي يعتمد تناوب السلطة عبر صناديق الاقتراع مهما كانت النتائج، لكن هذه القناعة جاءت بتيار فكري إسلامي لاترغب فيه دول المحور الضد، خاصة وأن ذلك التيار الإسلامي الذي اختارته شعوب الربيع العربي يعتمد على قدرة هائلة من تجييش العواطف الدينية لأغلبية السكان. وزاد هذا التيار تقدماً إلى صدارة الحكم وصناعة القرار، ظهوره كحام للفضيلة والقيم من هجمة خصومها...

أما المحور الثاني: يتمثل في اصطفاف فلول الأنظمة المتساقطة من تيار الربيع العربي الذين تمكنوا من التأثير على عدد مهم من الأنظمة الملكية وشبه الملكية في الجزيرة العربية، وهي الأنظمة التي تمسك مقاليد الثروة وجماعات الضغط والخبرة العريقة في بناء التحالفات، وترفض الانحناء لعاصفة التثوير الجماهيري والرضوخ للخيار الديموقراطي، ومن هنا تبدأ ملامح المرحلة الجديدة من الضياع وتنذر بمزيد من التوترات والتباعد القومي العربي...

إن علينا أن لا نصدق غداً من سيقول: إن ماسيحدث مؤامرة خارجية، أودسيسة صهيونية - كما كان يحلو لنا أن نرمي أخطاءنا ومغامرات زعمائنا على كاهل المؤامرة والمتآمرين الأجانب - وإذا وجدنا أطرافاً خارجية فإنما هم يمثلون رقم 4 ورقم 5 ورقم 6 ولكن المتآمرين رقم 1 ورقم 2 ورقم 3، هي حماقة وقصر نظر زعمائنا المغامرين الرابضين على رأس أنظمتنا الوطنية، رغم أنهم يصلّون في الصف الأول، ويعتمرون في كل رمضان، ويصعدون جبل عرفات كل سنة، فالمسرح العربي هو المسرح القديم، لكن الممثلين الجدد أكثر مهارة من السابقين، والأموال التي أضاعت المنظومة العربية نصف القرن الماضي قد أصبحت أكثر وأغزر مما كانت عليه قديماً، إن السخافات التي أهدرت القدرات والعقول العربية قديماً هي ذاتها اليوم تحشد نفسها وأموالها مرة أخرى لتلعب نفس الدور ونفس التوجهات القديمة، وتدخل بالمنطقة رحلة ثانية من الضياع في صراعات قد تضيع خمسين سنة أخرى من عمر الأمة العربية؛ فالأموال العربية التي تغيبت عن بناء نهضة عربية نراها اليوم قد حضرت وظهرت، ولكن لهدم البنية التحتية الباقية من المودة والوئام العربي، سواء باسم دعم وإسناد الثورات والأنظمة الثورية الجديدة، أو باسم دعم الفلول والتيارات العلمانية واليساريه التي لم تمكنها أرصدتها الجماهيرية من الوصول للسلطة بعد ثورات الربيع العربي...

إن تلك الأموال بدت عاجزة أن تصنع الطائرات، أو أن تصنع الغواصات، أو السيارات أو تطور التكنولوجيا، بينما لو كانت بيد إسرائيل لاستطاعت أن تغزو الفضاء، أستغفر الله!! لا أظلم العرب العرباء فقد استطاعوا إنتاج المياه الغازية وصفيح علب البيبسي والكوكا كولا وعلب السجائر، ولكن بترخيص وإشراف المبتكرين الأصليين...

إنها أنظمة مستغرقة ومشغولة بدعم الوهم، والسراب، وغارقة في الشهوات...


(فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون)...

منذ ستين سنة كان معظم العالم العربي محتلاً مستعمراً بين بريطانيا وفرنسا، وبعضها كانت شعوباً نائية ومتخلفة أشبه بمقابر صحراوية تذروها الرياح، انطلقت في تلك الشعوب صحوة قومية وشعبية جراء ثقافة نضج فكري، أو تأثر ثقافي أوحماس ثوري متأثرين بالتيارات الثورية، فتحررت بعضها من الاحتلال الأجنبي، بينما قامت ثورات وطنية عديدة في بلدان أخرى ضد حكام ملكيين، ولكن بعقليات قروية ومحلية بحتة، وتبنتها ورعتها ثورة مصر 1952م التي أطاحت بنظام الإقطاع الملكي، وقاد ثورتها كوكبة من الضباط بقيادة الرئيس محمد نجيب والرئيس جمال عبدالناصر وزملائه أنور السادات وعبدالحكيم عامر وغيرهم كثيرون معروفون، وكانت نزعة الثوار وطنية وقومية بحتة، وكانوا يرعون ويتبنون حروب التحرير في الدول العربية المستعمرة، ومن أشهرها ثورة الجزائر ضد فرنسا، وثورة جنوب اليمن ضد بريطانيا، لكنهم كانوا في بداية الأمر يمدون أيديهم بالسلم وأمل التصحيح لتحريك النهضة لجميع الأنظمة العربية الوطنية في الدول التي ليس فيها استعمار، حتى ولو كانت ملكية إمامية، والدليل على ذلك أن الوحدة الثلاثية العربية قامت بين مصر الثورة، وسوريا الجمهورية، واليمن الملكية المتوكلية، تلك إشارة واضحة أن تلك الثورات لم تكن في جوهرها شرقية ولا غربية، بل كانت قومية وطنية بحتة...

وكانت الثورات تحمل هموم الوصول إلى فجر جديد. فما الذي حدث بعد ذلك وتسبب للمنطقة بدخول التحالفات واستقدام جيوش القوى العظمى، في منطقة الشرق الأوسط، وأصبحت بعد ذلك مسرحاً للأساطيل والقواعد الأمريكية والسوفيتية... نعلم تأريخياً أن أمريكا لم تكن في الخمسينيات من القرن الماضي داعمة ولا مؤيدة للهجوم الثلاثي: إسرائيل – بريطانيا – فرنسا ضد مصر 1956م. بعد قرار الرئيس عبدالناصر بتأميم قناة السويس، بل كان لأمريكا موقف مضاد تمثل في الضغط على الثلاثة الحلفاء لوقف الهجوم ضد مصر. ويومها لم تكن إسرائيل قد احتوت الموقف السيادي ولا الفكر السياسي الأمريكي كما هي عليه اليوم...

إن المسئول عن استقدام القوى العظمى - السوفيت - وأمريكا - إلى المنطقة هو الثلاثي العربي المتخلف المتمثل أولاً: تمترس الزعماء العرب من ملكيين وجمهوريين وراء شخصنة الأنظمة وتقديس الذوات، وثانياً: عدم امتلاك الأنظمة الثورية للتجارب والخبرة في مجال المناورات السياسية وانعدام النضج الدبلوماسي لممارسة الحكم، وكانوا يظنون أن اعتمادهم على الزخم الجماهيري المنتفخ بالشعارات الثورية والهتافات المعادية للأنظمة الملكية كافياً...


ثالثا: الانجرار وراء الفلول المنهزمين المطرودين من الأنظمة التي أطاحت بها الثورات الجمهورية والذين تمكنوا من اللجوء للأنظمة الملكية ثم عملوا على تخويفها من إعصار الثورات العربية وترويعها من تصدير الثورات لممالكها المغلقة، وأقنعوهم أن الخطر الثوري الناصري يتهدد عروشهم. وما أشبه الليلة بالبارحة...

تلك هي أهم الأسباب التي دفعت الأنظمة الملكية للتحالف فيما بينها، ثم الارتماء الكامل في أحضان المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية التي وجدت لها فرصة لموطئ قدم لتواجدها اللوجستي في مناطق مليئة وواعدة بالثروات، وفيها أهم مضايق البحار وطرق التجارة العالمية والخطوط الخلفية للدب الروسي زعيم المعسكر الشرقي والخصم العنيد للولايات الأمريكية. وهذا ما شجع الأنظمة الملكية بتكوين جبهات قتالية ضد الجمهوريات الجديدة بدماء المرتزقة وبقيادة فلول الأنظمة التي أسقطتها الثورات وكل معارضي الجمهوريات وجنستهم، واتخذت منهم مستشارين...

وبالمقابل اتجه زعماء الثورات العربية الجمهوريون وفي مقدمتهم مصر والرئيس جمال عبدالناصر بكامل ثقل الثورة المصرية نحو الاتحاد السوفيتي ليجدوا النقيض والحليف العسكري الشيوعي الأكثر تسليحاً ودموية وبطشاً، والذي لم تستفد منه الجمهوريات الثورية غير تشويه صورتها بالأيدلوجية الإلحادية أمام مجتمعها المسلم، وفجرت خلافات حادة بين الأنظمة الجمهورية والجماعات الإسلامية، التي كانت ترى أن الاتحاد السوفيتي ليس مجرد حليف عسكري في مواجهة الضد الأمريكي، ولكنه عدو لعقيدة الشعوب الإسلامية، ويفرض الماركسية الإلحادية، وهنا بدأت الصدامات وأعمال القمع وفتحت السجون أبوابها، وعلقت المشانق، وتفننوا في التنكيل بالمعارضين بقوة الحقد الأيدلوجي، ويحضرني شهادة شاعر عن التعذيب في نونية شهيرة:..

أسمعت بالإنسان يوضع رأسه..


في الطوق حتى يبتلى بجنون؟..

أسمعت بالإنسان ينفخ بطنه..

حتى يصير كهيئة البالون؟..

أسمعت بالإنسان يجلد ظهره..

حتى يقول أنا المسيئ خذوني؟..

وجر ذلك الجمهوريات الثورية لانهيارات في أوضاعها الداخلية واصطدامها بالحركات الإسلامية، واستنزفت كافة الأموال والثروات في استيراد الأسلحة ووسائل الدمار من المعسكرين الشرقي والغربي كل لحلفائه، ثم بدأت مرحلة الحروب المباشرة بين الجيوش العربية بين دولة وأخرى، واستنزفت موارد الشعوب ودخلها القومي، ودماؤها الزكية، وتفننت الأنظمة العربية في الإنفاق على التصنت والتجسس والاستخبارات، وآلات التعذيب كل ضد أنصار الآخر...

ومن الأمثلة القريبة التي لا يمكن إخفاؤها كاملاً على الجيل الحالي في اليمن ولا التستر على حقائق التأريخ أن نقول للجيل المعاصر بأن القصف الجوي بالطيران الحربي خلال سنوات الستينيات من القرن العشرين في اليمن ضد القرى الموالية للملكيين مثل:

الحيمتين، ورازح، وحاشد، وحجة وخولان، لم يقم به طيارون يمنيون وإنما من السوفيت أومن الجيش المصري، وهم الذين قصفوا الجيش السعودي في مدينة نجران وجيزان، هل يعلم الجيل الجديد هذه الحقيقة؟ لقد كانت تلك الحروب عربية عربية إما باسم الثورية الجمهورية، وإلا باسم الرجعية ودفاعات عن الملكيات، وأنفقت فيها خلال خمسين سنة من رحلة الضياع الأولى ما لا يقل عن خمسة تريليونات دولار، كانت تكفي لبناء نهضة قومية عربية متعددة الألوان، كانت كافية لنسبق الصين التي كانت يومذاك غيرمعترف بها في الأمم المتحدة، مثل فلسطين اليوم وكانت الدولة المعتمدة تايوان، فأين أصبحت الصين اليوم وأين أصبحنا؟!، كانت يومها ماليزيا في صناديق الصفيح!، فأين وصلت ماليزيا اليوم وأين وصلنا؟...

وفي ظل تلك الحروب العربية الباردة والساخنة، استطاعت إسرائيل الإحتلال الشامل لبقية أرض فلسطين، القدس الشريف وغزة والضفة الغربية، واستولت على سيناء وقناة السويس والجولان، وتمكنت خلال تلك الفترة من بناء قواعد الصناعة، والتكنولوجيا، والسبق العلمي، والنووي...

لقد تزعزع النظام القومي الثوري العربي عندما بدأت الاختلالات في المنظومة ابتداء من إلغاء الوحدة العربية التي كانت قد بدأت بين مصر وسوريا ومن قبلها تلاشت فكرة الوحدة بين مصر واليمن، وقد تلقت مصر ومنظومتها الثورية ضربة قاصمة بهزيمة 1967 وتلا ذلك رحيل الزعيم الثوري الأكبر الرئيس جمال عبد الناصر. وبدأت الثورات الجمهورية بعضها ينضج، وبعضها ينصهر في بنوك الدول الملكية الرأسمالية، خاصة بعد انتقال السلطة في مصر للرئيس السادات الجمهوري الأقرب للفكر الرأسمالي الذي تحالف مع الأنظمة الملكية، ومسح كل خطوات عبدالناصر، وكان موقفه في ترحيبه بالشاه محمد رضا بهلوي ملك إيران المخلوع أشجع من أمريكا والسعودية وألمانيا وبريطانيا اللاتي رفضت استقباله، رغم أنه كان كبير حلفائهم، لكنهم حرصوا على مستقبل العلاقات مع ثورة
الإمام الخميني 1979 في إيران، ورفضوا هبوط طائرته في المطارات الأمريكية والأوروبية، وظل في الأجواء لا وطن يقبله غير مصر السادات، وتسببت شجاعة السادات في إغلاق ملف العلاقات المصرية الإيرانية حتى اليوم، وعلى مدى ثلاثة وثلاثين سنة...

وأخيراً فلا استطاعت الملكيات أن تطيح بالجمهوريات، ولا استطاعت الجمهوريات أن تطيح بالملكيات، ولكنهم نجحوا جميعاً في الإطاحة بخمسين سنة من عمر الأمة العربية ومستقبل أجيالها وثرواتها ووعيها ونهضتها ودماء طاهرة من أبناء شعوبها...

وجاءت ثورة إيران الشيعية وحولتها إلى نظام جمهورية ديموقراطية شيعية بعد ملكية بهلوية دكتاتورية كانت تتزعم الملكيات العربية، وتحارب معها، وتدافع عنها وتشاطرها سداد كل فواتير حروبها بأغزر الأموال. حتى إنها حاربت في اليمن إلى جانب تيار الملكية اليمنية ضد الثورة الجمهورية، وحاربت أيضاً إلى جانب سلطنة عمان في التصدي لجبهة تحرير ظفار التي كانت تقف وراءها حكومة الجبهة القومية اليسارية في جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية...

لقد كانت الثورة الخمينية الإيرانية صدمة عنيفة للدول الملكية من جديد لا تقل عن صدمة المعسكر الجمهوري بهزيمة العرب 1967م، لكنهم ورطوها في حرب طويلة مع العراق دامت تسع سنوات، لغرض تكسير أجنحتها الثورية، وإعادتها للخلف حتى لا تصدر ثورتها للممالك الأخرى...

وهاهي إيران قد عادت اليوم أقوى مما كانت عليه، وأوشكت على تثوير الشارع الخليجي؛ إما بالمظاهرات السلمية أو بالصواريخ الكيماوية...

أما بعد:..

إن التأريخ العربي المعاصر مفزع ومزعج للغاية، وأدعو دول الربيع العربي والأنظمة الملكية العربية إلى الجلوس على بساط التفاوض لفهم التاريخ، وعدم المغامرة بجيل قادم من عمر الأمة العربية، وبعدد من التريليونات من ثروات الشعوب قد تسفر عن هزيمة الطرفين، وعلى الطرفين التنسيق على أساس عدم التدخلات من الأنظمة الملكية في شؤون شعوب الربيع العربي، وعلى دول الربيع العربي أن لا تصدر الثورات لغيرها من الدول الملكية. وأدعو لوساطة مقبولة محايدة ليطمئن كل منهما للآخر، ويتخلى كل منهما عن كل ما يمس الآخر سراً وعلانية...

إن تشدد الملكيات العربية التي تتبنى فلول الأنظمة المتساقطة قد يدفع الأنظمة الثورية الجديدة المستهدفة للارتماء مكرهين في أحضان إيران، التي تبحث عن حلفاء بأي ثمن، وإذا ما حدث ذلك فإنهما سيشكلان ثقلاً جديداً في توازن اللعبة السياسية - أصعب مما كانت عليه علاقتها مع دمشق، وسيكون المسئول عن ذلك من يرفض دراسة هذه الزاوية من فقه المعادلات السياسية...

كلما قلنا عساها تنجلي قالت الأيام هذا المبتدا.