الثلاثاء“ 23 أبريل 2024 - 02:41 م - جرينتش

شروخ في جدار الوطن (19) .. الصورة الذهنية الخاطئة.. عمى، وجهل، وعداء للحقائق


بقلم/ د. عبد الولي الشميري 
الإثنين 28 يناير- كانون الثاني 2013م

الصورة الذهنية تعني باختصار شديد برمجة العقل ورسم صورة ذهنية مسبقة بشكل غير حقيقي وغير صحيح، سواء عن شخص أو حزب أو بلد أومنتج أو موقف أو حدث معين؛ تعتبر الصورة الذهنية أقوى عناصر التأثير سواء كانت مثبطة، أومنشطة، ولها أسماء عدة ومن أسمائها ووسائلها السلبية: ترويج الشائعات، نشر الإرجافات، ومن معانيها الإيجابية: التوعية، والحوار، ومن المصطلحات الرمادية المشتركة بين السلب والايجاب: الترويج والدعاية التجارية، ومسميات أخرى ذات دلالات متنوعة، أما الصورة الذهنية التي لا مجال لاعتبارها صنفاً من الأصناف السالفة فهي المعتقدات المقدسة في كل الأديان. 

 كانت الصورة الذهنية عبر القرون ترتسم من خلال القصيدة الشعرية، ومن خلال الروايات والأسمار والأحاجي، والقصص، وتبدأ بالتلقين الإخباري من الأم في سن مبكرة، ثم من الأب، ثم من الأتراب والأخدان، ثم من الزملاء والزميلات، ثم من المدرس والمدرسة، ثم من وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، ومن الخطبة والمحاضرة. وفي اليمن أيضا من خلال ديوان القات، وفي مصر أيضا من خلال المقهى، والجميع في أنحاء العالم يتلقونها من خلال عائلة اليوتيوب والفيس بوك، والمواقع الالكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي العديدة وغيرها، وقد أصبحت وسائل الإعلام المختلفة اليوم هي أخطر وسيلة لرسم الصورة الذهنية، وقد أصبح امتلاكها سهلاً وتوجيهها أسهل، ولها حصانة دولية، والعالم بأسره أصبح لها حزباً واحداً وملكاً خالصاً، وسميت بالسلطة الخامسة، وكل من امتلك خمسين ألف دولار امتلك إذاعة محلية، ومن امتلك مليون دولار أطلق قناة تلفزيونية، يخاطب بها الملايين كما يحلو له، التشريعات المكتوبة لمكافحة السرقات كلها لتجريم سرقة الأموال، ولتجريم سرقة حقوق الملكية الفكرية، ولكن سرقة العقول والأفكار بما ليس صحيحاً، وشحن القلوب وإيغار الصدور بشائعات خاطئة كاذبة، وتحريف الكلم عن مواضعه، وتجميل القبيح وتقبيح الجميل؛ من خلال تشكيل صورة ذهنية عكس الحقيقة، ورسم انطباعات فكرية ونفسية لدى السامعين والقراء والمشاهدين بعيده عن الحقيقة ليست جريمة، ومن هنا تنشأ التعبية الخاطئة، والحماس المفرط والاستماتة لدى المتأثرين عن جهل. 

ومن أبشع ما يشكل الصورة الذهنية في عقول السامعين: التكرار والاستمرار في ترديد جملة ما أو خبر معين مهما كان كاذباً أوغير صحيح، وقد أدرك ذلك السيد (غوبلز) وزير الإعلام الألماني في عصر هتلر الذي قال لمساعده: اكذب، ثم اكذب، حتى يصدقك الناس. واستفاد البلشفيون السوفيت فيما بعد من هذه النظرية والتقطوها لتشويه سمعة كل من لا يواليهم، بما في ذلك الأديان السماوية، وكل من عارض فكرهم الإلحادي. ثم اختطفتها الأنظمة العربية لتمارسها لخدمة ديكتاتوريتها، وضد خصومها. 
وتتشكل الصورة الذهنية الإحباطية سواء عن شخص أو عن موقف أو دولة أو مؤسسة، لغرض التفشيل النفسي والذهني، ولإثارة السخط العام ، وطمس كل جميل صنعته ليغير الصورة الانطباعية في أذهان الناس. 
وقد استخدم كفار قريش كل الشائعات الكاذبة ضد رسول الله « صلى الله عليه وسلم » لصناعة صورة ذهنية سيئة لخدمة المعاندين للهداية، وقد رد عليهم رب العالمين (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا) الكهف. 
وقد يؤدي الضغط التصوري الخاطئ لتفشيل الناجح، كما حكي أن جيشا قويا اندفع لإحتلال قمة جبل حصين وكان العدو لا يمتلك إلا جاسوساً واحداً في شكل راع للغنم اعترض ذلك الجيش المندفع وقال: لا أظن بإمكانكم الوصول للقمة لأن في طريقكم حيوانات مفترسة كاسرة، وثعابين سامة ، بالإضافة إلى كمائن حصينة من عدوكم، لكنهم اندفعوا نحو الهدف غير آبهين بما قال، لكن بعد أن طبع في أذهانهم صورة ذهنية عن المصاعب والمخاطر، فلم يصل إلى القمة إلا جندي واحد منهم فقط، فاستغرب المخبر كيف عجز الجيش ونجح هذا الجندي الضعيف في الوصول، فلحقة واكتشف أنه كان أصماً لم يسمع. 
وفي المدينة المنورة أطلق القرآن لراسمي الإنطباعات النفسية اليائسة، والصورة الذهنية القاتمة لرسول الله اسم ( المرجفون)، وجعلهم القرآن أشقاء المنافقين فقال: (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا). الأحزاب. 

وأصعب الصور الذهنية صلابة وتصدياً لنورالحقيقة هو: أن ترتسم في عقلية جاهل صورة ذهنية وانطباعاً خاطئا، ومن أجمل لفتات الإمام محمد متولي الشعراوي تعريفه للجاهل إذ قال: ليس الجاهل هو الذي لا يعلم فقد يتعلم؛ ولكن الجاهل الذي يعتقد الأشياء خطأ لأنه يتعصب لفهمه الغلط ويدافع بعناد باستماتة، ولا يقبل التصحيح. 
 وأحسن السيد (الترليبمان) في مطلع القرن العشرين حين سمى وعرف الصورة الذهنية بقوله: الصورة الذهنية هي: رسم الخريطة التصورية التي يستطيع الإنسان من خلالها أن يفهم ويدرك ويفسر الأشياء “ أي أن الصورة الذهنية هي الفكرة التي يكونها الفرد عن موضوع معين وما يترتب عن ذلك من أفعال سواء سلبية أو إيجابية وهي فكرة تكون عادةً مبنية على المباشرة أو على الإيحاء المركز والمنظم، بحيث تتشكل من خلالها سلوكيات الأفراد المختلفة. وصنفها إلى: الصورة الحقيقية، الصورة المرغوبة، الصورة المثالية، الصورة المكروهة، الصورة الضد. 

ومن أبشع ما يستدام في الأذهان تلك الصور الذهنية التي يرسمها الشاعر، فقد يحسن القبيح، وقد يقبح جمالا، وقد يصنع الشاعر البليغ صورة ذهنية مشوهة لعظيم، وصورة مثالية لمن دونه. ولننظر إلى مثلين فقط من آلاف الأمثلة الشعرية في حياة الحكام وفي حياة الأشخاص، فمثلا نرى أبا الطيب المتنبي قد رسم صورة في غاية من القبح والسوء لحاكم عظيم في تاريخ الدولة المصرية، وهو كافور الأخشيدي، الذي كان يحكم مصر والسودان، ويمتلك دولة عتيدة قوية، واشتهر بالصلاح في السلوك والزهد، والعدل في الرعية، وكان يضع المال في موضعه، ويمنعه حيث لا موضع له، لكن الشاعر خلد عنه صورة ذهنية من أكره الصور البشعة: 
لا تشتري العبد إلا والعصا معه 
 إن العبيد لأنجاس مناكيد 
من علم الأسود المخصي مكرمة 
أقومه البيض أم آباؤه الصيد 
فانظر كم هي الصورة الذهنية القاتمة الخالدة عن هذا الملك الكبير. 

كما نجده يرسم صورة ذهنية مثالية للأمير سيف الدولة الحمداني وهو أمير إمارة صغيرة في الشام محدودة، لا تصل نسبتها 10% من الدولة الإخشيدية في مصر، وبغض النظر عن الأسباب المادية البحتة لكنه نجح في رسم صورة ذهنية ذهبية متلألئة عن هذا الأمير الذي أصبح ذكره في التأريخ أكثر من الخليفة العباسي ذاته، الذي كان سيف الدولة أحد عماله، إذقال: 
وقفت وما في الموت شك لواقف 
 كأنك في جفن الردى وهو نائم 
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة 
ووجهك وضاح وثغرك باسم 
وقد استفادت وسائل الإعلام التجارية والأفلام والمسلسلات الموجهة في توظيف الصورة الذهنية لتحسين المنتجات والسلع التجارية تحت اسم الترويج والتعريف والاشهار، في ظل التنافس الشديد بين مثيلاتها، وتغيير الصورة الذهنية السلبية لدى المستهلكين. 
وفي مصر كان أحد أركان مترو الأنفاق المهجورة، صبى هزيل الجسم، شارد الذهن، يبيع أقلام الرصاص، ويشحذ.. مر عليه أحد رجال الأعمال، فوضع بعض النقود فى كيسه ثم استقل المترو فى عجلة وانطلق، وَبعد لحظة من التفكير، خرج من المترو مرة أخرى، وَسار نحو الصبي، وَتناول بعض أقلام الرصاص. وأوضح للغلام بلهجة يغلب عليها الاعتذار أنه نسي التقاط الأقلام التي أراد شراءها منه. وقال له: إنك رجل أعمال مثلي.. ولديك بضاعة تبيعها وأسعارها مناسبة للغـاية، ثم استقل القطار التالي. وبعد سنوات من هذا الموقف في إحدى المناسبات الاجتماعية تقدّم شـاب أنيق نحو رجل الأعمال وقدم نفسه له قـائلاً: إنك لا تذكرني على الأرجح، وأنا لا أعرف حتى اسمك، وَلكني لن أنساك ما حييت، إنك أنت الرجل الذى أعاد إليّ احترامي وَتقديرى لنفسي، لقد كنت أظن أننى (شحاذ) أبيع أقلام الرصاص لغرض التسول، ولكنك أخبرتني بأنني رجل أعمال، وقد برمجت ذهني على هذا الشعور واليوم أصبحت كذلك، امتلك ثروة. 
إن ربط الحالات بالوقائع يجعل لها صورة ذهنية لا تنسى سواء بالسلب أو الإيجاب ولهذا تجد أن أغنية قديمة مثلاً تستدر الدموع حتى ونحن في الخمسين أو السبعين ، لماذا ؟ لأنها ارتبطت بحالة حبٍ عشناها في العشرين أو ما قبل ذلك. 

أما بعد: ماذا تصنع بنا وسائل الإعلام العديدة وقنواتنا الفضائية الكثيرة التي تملأ ذبذباتها الأثير؟ هل ترسم في أذهاننا وأجيالنا صوراً ذهنية جميلة تؤهلها للبناء والحب والتسامح والنبوغ؟ أم أنها أوغرت قلوبنا بالعداوات، ومزقت مجتمعاتنا بالبغضاء، ونفخت كير الهواء على حرائق الفتن فزادتها إضراما؟، وشكلت صوراً شوهاء قاتمة عن كل أبيض ناصع، ووضفت نفسها لتبييض كل قبيح ومستبد وفاسد، بل خربت في النفوس جماليات التعارف الإيجابي، وحسن الظن ببعضنا البعض، والأكثر أسفاً أن وسائل الإعلام الرسمية التي ظلت منذ ولدت في وطننا العربي التعيس تسبح بحمد الطغاة، وتمجد أسماءهم، وتقدس أخطاءهم، وتصنع منهم قديسين ورهبأنا، وعلى مدى عقود عديدة شكلت عنهم صوراً ذهنية كاذبة خاطئة، حتى كان المستمع للأخبار من التلفاز الوطني يحس أنه منشغل بتسويق منتج كاسد أو سلعة فاشلة يكرس اسمها في كل جملة لتسويقها وترويجها لدى السامعين، تبدأ بعبارة .. قرر الرئيس ثم استقبل الرئيس، ثم ودع الرئيس، ثم هنأ الرئيس، ثم عزا الرئيس، ثم زار الرئيس، ثم تناول الغداء الرئيس، ثم بعث ببرقية الرئيس، وفي آخر الأخبار تسونامي يقتل 300 الف إنسان، وسقوط طائرة وطنية بكامل ركابها، وآخرها حرب نشبت في احد القطار القريبة أوثورة في دولة شقيقة. 

هذه وهكذا كانت رسالة أجهزة الإعلام الرسمية، وماتزال وسائل التعبئة الخاطئة وشحن الصدور بالتكفير، وبالتشدد، وبالإنحلال، وبالتمرد، وبالأطماع، بالمصلحة، وبالقبيلة، وبالطائفة، وبالمذهب، وبالحزب، وكل يعمل لرسم صورة ذهنية خاطئة عن الأخر فيضل ويضلل مصدقيه، لقد سئمت ويئست من عشر قنوات يمنية كلها مملوكة وتعمل ضد الضد، لتكوين الصور الذهنية الخاطئة، وكلها تدعي أنها سلطة خامسة، ويحزنني أن كل من استطاع اعتلاء المنبر في المساجد وارتدى الجلباب واللحية وقف على رؤوس الآلاف يسمي نفسه خطيباً ومحاضراً دون أن يتلقى أي دورة تدريبية، أو أن يكلف نفسه تمحيص الحقيقة، أوالإلمام بفقه الواقع أوبالمادة التي سيتحدث فيها،ودون أن يقرأ في أصول الخطابة ولا في فقه القلوب، ناهيك عن عشرات الجرائد المحلية والعربية التي تتناحر وتعمل على التقبيح والتجميل وتتسابق على ما لا أود ذكره. 

كنت في هذا الأسبوع في زيارة أخ يمني مريض في مدينة لندن بمستشفى كروم ول Cromwell hospital وكعادتي أمر لاقتناء الجديد من الكتب والصحف العربية من مكتبات في شارع العرب الشهير Edgware road في قلب لندن، وجمعت بين يدي حزمة عشوائية من الجرائد العربية وقبل أن أدفع الثمن التقيت فيها صديقا قديماً مفكراً عربياً شهيراً، وخلال الحديث قال : انصحك لا تشتري أي صحيفة عربية خلال هذا العام حتى لا تصاب بأوجاع الصداع السياسي الكاذب، فقد هجرتها وابتعدت عنها لكي أرى الناس والأحداث بعين الواقع، لا بأقلام الزيف والتضليل، ثم لعن أموالاً عربية جاءت من أجل القضاء على كل جميل عربي، كما لفت نظري لمجموعة كتب في المكتبة مجلدات ضخمة ومزخرفة كتبت وطبعت خلال العام وكلها تحمل عناوين تشهيرية مثيرة فيها كلاما لايليق أن يقال فضلا عن أن يكتب ويطبع وينشر ويقرأ. ثم سألني هل تعرف اللغة البنغالية؟ 
قلت: لا قال : انصحك إذا أن تصلي جمعتك في مسجد البنغال حتى لا تصاب بألم قلبي من الخطب التي تفهم لغة خطيبها. 

وأما في يمننا الحبيب فمجالس القات، ودواوين السلطات فهي الأخرى صانعة ما يكتب وما ينشر، ويذاع، في صحف الغد وباللهجة العامية المعروفة في اليمن: (حشوش). وأخيراً ماذا لو أعدنا برمجة المخ العربي بالحقائق واستأصلنا السلبية وعوضناها بانطباعات إيجابية؟ وتصافحنا على حسن ظن، وتعانقنا على حب، وكل منا يصنع مجده بجهده لا من خلال صورة ذهنية سيئة عن الآخر، فلو حدث ذلك لما رأينا قطاع الطرق، ولا مخربي المؤسسات العامة، ولا الحرائق التي نراها في الشوارع العربية، ولكان كل شيئ على مايرام. 
إن الذي خلق الحقيقة مرة  ... لم يخل من أهل الحقيقة جيلاً

shemiry@shemiry.com