الجمعة“ 19 أبريل 2024 - 08:34 ص - جرينتش

متى يبلغون الرشد


  إفتتاحيات مجلة المثقف العربي 
  العدد رقم(34)    صدر بتاريخ (2004)
 
 لقد منعني خوف من تصعيد الموقف السخيف الذي تتبناه بعض أنظمتنا العربية ضد بعضها الآخر حتى أصبحت أشك في لقاء ودي أو نفاقي لدى القمة العربية في تونس أو غيرها إلا إذا كان لغرض المزيد من الاستعراضات وتفجير المزيد من الخلافات نعم منعني ذلك أن أنعي في افتتاحيتي للرجل المناضل الفلسطيني والمفكر الكبير الصديق أحمد صدقي الدجاني الذي تسلل إلى مثواه الأخير في أوج الحاجة إلى مبارزاته الفكرية ورؤاه الناضجة، كما ترجلت الشاعرة الفلسطينية الكبيرة فدوى طوقان، في نفس الشهر عن صهوة جواد الكلمة الشاعرة بعد نضال كبير وآثرتُ نعي الألفة والتضامن السياسي العربي قبل نعيهما، لأن فقد ذلك أكبر فداحة من خطبنا في الدجاني وفدوى طوقان، وخاصة عندما حمل إلي أحد الفاكسات المشئومة وثائق رسمية صادرة عن دولتين عربيتين فيهما كل ما يثبت أن القافلة العربية ما تزال في صحراء التيه العربي، لا حادي ولا هادي لها، وضاع وقت أهدرته في كتابة نصحي ومراهنتي على أبطال داحس والغبراء، مع يقيني الذي لا أشك في صدقه بأن من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا قراءة محاضر الاجتماعات العربية السياسية وبياناتها الختامية التي ابتلانا الله بها على طولها ومجاجتها ورتابتها وتكرار مفرداتها التي لا تحمل مدلولا مفيداً ولا معنى جديداً، ولا راحة لنا في رميها في سلال المهملات . 

 والبلوغ لهذا الإنسان بلوغان .. الأول بلوغ الحلم والثاني بلوغ الرشد ، وشهد العالم بأسره بلوغ الحكام العرب سن الحلم في هذا العام المنصرم 2003 للميلاد بعد عمر طويل من عُرام الشباب وطيش الكبر والخيلاء المليء بالمغامرات السياسية في مسرح الخذلان والاستعلاء، ومن الحقائق الملموسة لهذا البلوغ المتأخر ذلك النجاح المزعوم الذي حققه بعضهم في إغلاق الملفات الملتهبة والتي كانت مفتوحة على منضدة المكتب البيضاوي للنظام الاستعماري الجديد، ابتداء من لوكيربي حتى نيقوس، وبحكمة ودهاء بالغ استطاع بعض زعمائنا العمل على شراء الصمت والسكوت عن أهم التهم والجرائم المنسوبة إليهم خاصة ما يتعلق بالغربيين ، فقد شروا موعدا للصمت والتغاضي عنها مقابل حفنة معدودة من آلاف الملايين من الدولارات تلك الأموال التي قالوا أن فاعلة خير قد تبرعت بها كفدية رمزية لرؤوس من الأبطال التي تطالب بها أمريكا والغرب من زعمائنا المغاوير، فلله در تلك المبادرة في سبيل الخير ولا أدري، أيظن أولئك أن أحداً من حمير العالم وليس من البشر سيصدق أو تنطلي عليه هذه المهازل السخيفة؟! لقد أدرك حتى الذين لا يعقلون أن ثمن الصمت عن تلك الملفات كان أكبر بكثير من ذلك الثمن المادي المعلن وأقل وأبسط الأدلة على بقية المهر المؤجل والمعجل ذلك الانبطاح المستسلم لكل مطالب إسرائيل ووسطاء الحل ابتداء من كف اللسان والقلب عما يجري من مذابح ودمار ضد الفلسطينيين ومرورا بالرضى والقبول بواقع احتلال وابتزاز الشعب العراقي الصامد وانتهاءً بالقبول غير المشروط بالتسليم الشامل لكل بنية صناعية لأي وسيلة عسكرية ابتداءً من معدات إنتاج البارود انتهاءً بما يقال عن معدات التخصيب النووي والتركيب الكيماوي اللذين لا وجود لهما في الحقيقة، هذه الأثمان ما هي إلا جزء من قائمة المهر المعجل، أما المهر المؤجل فهو أكبر وأكثر فداحة وغرما،ً ويتمثل في منح العافين عن الناس الحق الدائم في الاستثمارات النفطية تنقيباً وتكريراً وتصديراً لأمد بعيد المدى والبقاء تحت الحماية العظمى إذا حدث أي عدوان من الشعب وتطبيع مع إسرائيل سواء حلت قضية فلسطين أو لم تحل، ثم التوقيع على بروتوكولات المشاركة المادية والمعنوية واللوجستية في الحملة على ما يسمى بالإرهاب ضد أمريكا وإسرائيل وعدم سحب الأرصدة المجمدة في البنوك الغربية وعدم المطالبة برفع الحظر عنها أو إلغاء تجميدها لأنها خاضعة لعدد من القوانين مثل غسيل الأموال وقانون دعم الإرهاب حتى تثبت براءتها ولو بعد خمسة قرون واستمرار الحصار الاقتصادي والحظر التكنولوجي على الشعب حتى يتم الوفاء بالمهر المؤجل كاملاً، ومع كل ذلك فكل هذه أثمان واقعة لا محالة ومطبقة بطبيعة الحال من قبل أو من بعد، لا يزيد وجودها شعبنا العربي شيئا من الويل ولا ينقصه عدم وجودها شيئاً من المعاناة والعذاب، ولكن الذي أتمناه أن تبذل تلك الفاضلة المحسنة قصارى جهدها لدى الغرب ليمنح الشعب براءة من الإرهاب وأطالبها بأن تدفع فدية للشعب خيرا من أن تدفعها فدية عن شخص واحد.

 إن أمتنا تعودت على دفع الأثمان الباهظة عند كل حصار فدية لطيش القائمين على قيادتها وعند كل مواجهة مسلحة، وخسرت أمتنا فلذات أكبادها وصفو عيشها وهي تدافع وتحمي وتقاتل مع زعمائها الذين لا يفكرون لحظة واحدة في رد شئ من الجميل أو منحها بعض حقوقها بل يزدادون قسوة وتشديدا للخناق كلما شعروا بأنهم قد وجدوا هدنة أو صفقة مع الأجانب المهددين لعروشهم وكراسيهم، ومن غريب ما نسمع ونشاهد أن قيودا جديدة وشروطا مشددة بدأت بعض الأنظمة العربية تفرضها على المواطن العربي في ظل هذه السياط والمخالب العالمية والدولية المتكالبة على أمتنا العربية، فنجد بعض الأنظمة العربية ما زالت تتفنن في الحصار والحد من تنقل أبناء الشعب العربي منه وإليه، وتفرض القيود الجديدة كما تفرض الحظر الأمني وتعقيدات أشد مما فرضته الثورة البلشفية وأنظمة الحكم الشمولي، لا لشيء يدعو إلى ذلك الإجراء ولكنه يأتي في إطار ممارسة شهوة السجان في تعذيب سجنائه، والضعيف المنهزم الذي يضرب على وجهه من خصومه فإذا عاد إلى منزله ذهب ينتقم من زوجته وأطفاله بشراسة وعنف ليطمئن أنه مازالت له القدرة على أن ظلم من هم دونه .
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم

إن هذه الإجراءات الجديدة التي استحدثت خلال هذا الشهر ومع مطلع هذا العام لدى بعض الأنظمة العربية لتؤكد أن الوعي والرشد مازالا غائبين عنها وأن تفكيرها لم يعد بعد قادراً على أن يواكب العصر والألفية الثالثة، فهل لنا أن نطالب وننادي ببلوغ الرشد العربي وليكن شهر مارس 2004 هو عيد الرشد انطلاقاً من القمة العربية القادمة سواء في تونس أو في غيرها ـإن عقدت أو لم تعقد ـ وإن بلوغ الرشد لن يكلف البعض تكاليف بلوغ سن الحلم وليس صعباً ولا شائكاً، ولكنهم فقط في حاجة إلى بلوغ رشد حقيقي وتخل عن عناصر الغرور والكبر والاستعلاء.
لم يعد اليوم مناسباً للقادة العرب للشجب والتنديد والتحذير من المغبة أو التعبير عن الأسف أو التثمين ، ولكن الأنسب إعلان التحرير للشعب العربي من ربقة القيود الإدارية والاقتصادية ومنع حرية التنقل والتعارف .
إن التنازلات التي يجبر الزعماء العرب على تقديمها دون مقابل لصالح خصومهم وضد مصالح الأقطار العربية يجب أن يكون لها في المقابل تنازلات مساوية أو مقاربة لشعوبهم التي خسرت تحت قيادتهم كل طموحها فلبست بسبب تصرفاتهم الخاطئة لباس الخوف والجوع . 

الدكتور عبد الولي الشميري