الأحد“ 5 مايو 2024 - 10:28 م - جرينتش

شكراً سفير حضارتنا


شكراً سفير حضارتنا

 


بقلم/ عارف أبو حاتم
arefabuhatem@hotmail.com


الاشتغال على الموروث الثقافي والأدبي والعمل على ترميم الذاكرة اليمنية مما أصابها من تصدّعات مخيفة أحدثتها أعمال السياسيين المحتاورين نهاراً والمتحاربين ليلاً؛ هو واحد من أهم الأعمال التي يجب الانصراف إليها والاشتغال عليها. صفيح السياسة الساخن يأخذ اليمنيين إلى مجاهل الحياة، وأصبحوا يتحدّثون في كل أشياء إلا في موروثهم العظيم، وكيفية تحويله إلى مورد لاقتصادهم المنهار بفعل سوء تصرّفاتهم.
قلت مرّة للغريب: منذ متى رأيت سائحاً يتجوّل في شارع يمني، ومتى آخر مرّة قرأت عن نسبة الدخل القومي من موارد السياحة، وكم نسبة السياحة الداخلية إلى السيّاح الخارجيين الذي زاروا معالم ومتاحف اليمن الغنيّة والنادرة، ألم تقل صحفية أوروبية إن كل اليمن متحف..؟! فردّت أخرى: اليمن كلّها متحف متحرّك.
للصدى وجعٌ، للوجع أنين أحدثته روائح البارود، تقاتلنا حول كل شيء، وقبل الاقتتال لم تكن السياحة والثقافة تشكل اهتماماً لدى النُخبة السياسية بشقّيها “الحاكمة والمعارضة”.
مرةً سألني الغريب: من هو الحزب السياسي الذي نظّم في مقرّه صباحية شعرية وأمسية موسيقية..؟!، أجاب صدى السؤال: يرونها بضائع صليبية..!!.
لا أحد في هذا البلد يتحدّث في الشأن الثقافي أو معالم التاريخ أو نزيف الآثار الذي تزداد ذروته كلما زاد تراخي قبضة الدولة.
الليلة الماضية ذهبت في رحلة تاريخية عميقة، أدهشتني روعة المكان، وسحر البيان، كان كل شيء ينبض بالحياة، حفيف الشجر، وهدير المياه، ورقّة النسيم، وهديل العصافير، أما لغة الحديث فقد كانت شيئاً يشبه ومضات برق آخذٍ بالذهول.
رحلتي كانت مع كتيب مفعم بالوطنية الصادقة، عنوانه: “قلعة القاهرة – تعز” وخلال 52 صفحة عرضية وتصوير في غاية الروعة؛ قدّم السفير الدكتور عبدالولي الشميري عرضاً تاريخياً وسياسياً لسيرة “القلعة” مكتوباً باللغتين العربية والانجليزية، وهو ما لم تفعله وزارة السياحة..!!.
تاريخ “قلعة القاهرة” بدأ عند اكتشاف الأمير عبدالله بن محمد الصليحي عام 436 هـ أطلالاً بالية من حصن قديم لا يُعرف له تاريخ فوق قرية “عُدينة” ويُعتقد أن الحصن يعود إلى عصر الدولة الحميرية، فقرّر بناء حصن يحمل اسمه، ويحرس ملكه، لكن القلعة ظلّت تتنقّل بين يدي الدول، والحكّام الذين تعاقبوا على الحكم وتصارعوا عليه، كانت ترسلهم إلى المقابر والمزابل في حين يزداد شموخها، ويمتد جذرها ويكبر جذعها.
تقاتل عليها الصليحيون والنجاحيون والزريعيون، حتى تمكّن علي بن المهدي الرعيني من السيطرة على القلعة في منتصف القرن السادس الهجري، حتى جاء الإمام الزيدي عبدالله بن حمزة، المشهور بطغيانه الجامح عام 593 هـ واستولى على القلعة واشتغلت لديه “ثقافة الفيد” وقرّر نهب كل محتوياتها وأسلحتها، لكن زحف عبد النبي الرعيني اجتاح القلعة وأخرج منها الإمام الزيدي المنشغل بقتال المطرفية في صنعاء؛ ما دفع بأحدهم إلى الاستنجاد بالناصر صلاح الدين الأيوبي، والذي لبّى طلبه وأخرج الإمام بن حمزة وقاتله وبسط نفوذ الدولة الأيوبية على اليمن، وفي سنة 653هـ نقل الملك المظفّر الرسولي “يوسف بن عمر” عاصمة الدولة من الجند إلى تعز، وبسط حكم نفوذه من ظفار في عمان إلى قرب المدينة المنورة، وهو ثاني أكبر ملوك اليمن بعد علي الصليحي.
وخلال قرنين من حكم الرسوليين تطوّرت قلعة القاهرة وتم تشييد سورها المعروف اليوم، وفي 859 هـ استولى جيش الدولة الطاهرية على القلعة، وبعد حرب شرسة مع جيش الدولة العثمانية القادم من مصر؛ تمكّن الأتراك من السيطرة على القلعة في 924هـ وفيها شقّوا أنفاقاً عميقة لتكون مخازن للغذاء والسلاح؛ حتى تمكّن الحاكم الزيدي المتوكل على الله اسماعيل بن القاسم، في القرن الـ11 الهجري، من السيطرة على القلعة، وفي القرن التالي أعاد الأتراك سيطرتهم عليها.
ذلك التاريخ الجميل المتنقّل بين السياسة والثقافة كانت القلعة شاهدة عليه، فدار الآداب فيها كانت معتقلاً سياسياً شهيراً وفيه سجن وقتل المئات في كل العصور، وفيها أمر حاكم البلاد “توران شاه الأيوبي” بإعدام الأمير الفارسي “خطاب بن منقذ” وفيها سجن حتى الموت كل من الإمام الزيدي إبراهيم بن تاج الدين، وأمير تهامة أحمد بن أبي الغيث وأمير الحديدة اسماعيل بن إقبال، وفي القرن العشرين الميلادي سجن فيها المناضل عبد العزيز الحروي، ورغم ذلك حوت أعرق مدرسة علمية لنزلاء السجن والرهائن من أبناء القبائل، ومن أبرزهم الشيخ علي بن عبدالله البحر، من قبائل ماوية تعز.
توثيق تاريخ قلعة القاهرة التعزية؛ بلغة عذبة وسهلة وسلسة عمل عظيم وجهد كبير بذله السفير والأديب الكبير الدكتور عبد الولي الشميري، فقد ترك في العمل السياحي بصمة ستتوالد إلى أعمال أوسع وأشمل، تماماً كما ترك بصمات كالضحى في المجال الثقافي والأدبي “خاصة الموروث منه” فله كل تحيّة واحترام ومحبّة.

 

رابط المقال: إضغط هنا