الأربعاء“ 24 أبريل 2024 - 09:06 م - جرينتش

مستقبل الثقافة العربية في ظل العولمة بين الواقع والمأمول


    " الدكتور عبد الولي الشميري يشخص الداء ويصف الدواء

مستقبل الثقافة العربية في ظل العولمة بين الواقع والمأمول

 موضوع هذه الليلة حساس جداً، ولقد تحدثت حوله قبل عام 2000 وكانت المفاهيم مختلفة، لأننا كنا نقرأ التاريخ وكأن العالم بأسره لا يهتم إلا بشراء العقول من خلال البطون، لكن اليوم تغيرت المفاهيم وأصبح حتى الأموات لهم إمكانيات ومطابع وكتب ومنابر وقنوات فضاء وصحافة وأنظمة وجيوش. وبداية نسأل عن التعريف الدقيق للثقافة فهي مجموعة ثوابت وقيم وأفكار تقوم على أساسها الأمة التي تنتمي إلى هذه الأفكار والثوابت، فالمصريون يتحدثون عن الحضارة الفرعونية و العراقيون عن الحضارة البابلية وفي سوريا الحضارة الآشورية وأهل اليمن يتحدثون عن الحميرية والسبئية، وهل أهرامات الجيزة هي كل حضارة مصر ؟ بالطبع لا، فهي مجرد معالم تدل على حضارة عريقة لهذا البلد نتج عنها مجتمع مدني منظم، وحياة مدنية مستقرة أفرزت هذه الحضارة. 

 

كنت قد قرأت كلمة الأديب نجيب محفوظ لدى تسليمه جائزة ""نوبل"" للأدب حيث قال: ""أنا ابن الحضارتين الإسلامية والفرعونية"". وهو يقصد هنا القيم التي كانت تحكم الدولة والمجتمع قبل أربعة آلاف سنة حين يحيل الملك مجرماً ارتكب فاحشة إلى مجلس القضاء في الدولة الفرعونية ليقيم حكم القانون بعد توجيه الاتهام وسماع الشهود وأقوال الدفاع، فهذه هي القيم والمبادئ تتجلى بصورة عملية وكان بإمكان الملك أن يأمر بقتل الجاني وينتهي الأمر، لكن هذه هي الحضارة التي قامت على أساس العدل كقيمة من قيم ذلك المجتمع المتحضر، حيث يبدو الملك مدعياً كسائر المدعين، وهنا يتضح معنى الثقافة كمجموعة للثوابت والقيم والأفكار التي تشكل المجتمع، تأتي بعد ذلك مجموعة الوسائل اللازمة لتحقيق هذه القيم والمبادئ من الكتاب والتلفاز والصحيفة والخطبة والقصة والمسرحية وغيرها مما يعرّف الناس بهذه الثقافة. 

 

ونحن العرب لنا قيم وثوابت ومبادئ نؤمن أنها حق، ولا نقبل قيماً أخرى سواها مما يغزو بلادنا وديارنا ومجتمعاتنا على الإطلاق، وفي سبيل هذه القيم سنموت وتحت رايتها سنحارب، لأنه لا يجوز المساس بها، وتأتي الثقافات الأخرى كما سماها صموئيل في كتابه الشهير "" صدام الحضارات"" ليكون أول من أشعل فتنة الصدام ليقول: إن الكنفوشية هي ثقافة الغرب والإسلام ثقافة العرب وأن الصدام يحدث بينهما، ثم يصف الحضارات بالثقافات وليس بالبنى الاجتماعية والمعمارية، وقال: إن الدولتين اللتين تتزعمان هذه الحضارة إحداهما مصر وهي بلد فقيرة ومتخلفة ولابد أن تبقى كذلك والثانية إندونيسيا دولة كثيرة السكان وتنمو نمواً سريعاً وعدد سكانها من المسلمين 200 مليون نسمة وتزداد زيادة مخيفة ولكنها لا تمثل خطراً كما هو الأمر في مصر بسبب اللغة والبعد المكاني عن موطن النشأة الثقافية العربية، فالذي يمثل التهديد هو مصر، وأما إيران وباكستان والسعودية فهي دول ذات ثقافة إسلامية ولكنها تتنافس فيما بينها ولا خوف منها أن تتزعم مسيرة الثقافة العربية والإسلامية. 

 

ومن هنا فالثقافة تتخلف كما يتخلف الإنسان إذا لم يقرأ وتبقى متخلفة، وإذا لم نعلم أبناءنا وأجيالنا هذه المبادئ وننقل لهم القيم والمفاهيم سينشأ جيل جديد ينسى ثقافته ويبحث عن ذيول التبعية ويجري وراء كل ناعق ـ ومن أجل هذا كان التركيز على تجهيل أبناء الأمة العربية بثقافتهم، وتبذل في سبيله الملايين، والثقافات الأخرى كالمسيحية فهي ليست كالكنفوشيه، ولابد أن يبحث لها عن موضع في روسيا مثلاً لتنافس الحضارة الإسلامية وهذا معناه صيحة جديدة للنطاح بين الثقافات العربية وغير العربية، و كذلك المسيحية بمختلف أشكالها، وهذا يعني أيضاًَ أن تحل الثقافة الأمريكية الجديدة التي ليس لها جذور من قيم ولا تاريخ ولا خلق لتصبح هي الأصل الجديد الذي ينبغي أن يحل محل هذه الثقافات. من أجل هذا فإن مستقبل الثقافة العربية تهدده ثلاثة أخطار :

1. الهجوم الكاسح للاستئصال اقتصاديا وعسكريا.

2. الهجوم الثاني وهو التجهيل لأبناء الأمة العربية بماضيها وتاريخها وثقافتها ومفاهيمها.

3. حملة التشويه الموجهة للأجيال المعاصرة وتشكيكها في سلامة نهجها وسيرها على ما هي عليه وربط ذلك بالمعدة والغذاء والصحة والوظيفة والدراسة والمستقبل، كأن هذه الثقافة العربية اليوم إشارة تجويع وتجهيل وقطع أرزاق، وثقافتنا اليوم هل هي قادرة على المواجهة؟ والإجابة بالسلب لأنها منيت بتخاذل أبنائها والحاملين لها والدول العربية الوصية على حضارتها رافضة سلوك المسار الصحيح الذي يؤدي إلى حماية هذه الثقافة وتوصيلها إلى الآخرين، ولم ترصد لحماية الثقافة جزءاً من دخلها بل موقفها يشوبه التخاذل الشديد.

 

فاليابان مثلاً تقدم خمسة ملايين دولار لاستئجار جناح في أكبر معرض دولي للكتاب في العالم في فرانكفورت بألمانيا لتعرض فيه ثقافتها ومطبوعاتها ومنشوراتها وقدمت ستة آلاف مطبوعة تقدمها مجاناً للرواد ـ وكذلك تقدم الاتحاد الأوروبي واستأجر الجناح بسبعة ملايين دولار لتقديم سبعة آلاف مطبوعة مجانية، ومنذ عام ونصف والعرب عاجزون عن مثل هذا العمل وقد تنفق ملايين الدولارات في عرض ما في أي قطر عربي فقير في أمور غير ذات فائدة.دة.دة.

وحتى الدول التي سددت جزءاً من حصتها لاستئجار الجناح بالمعرض لم ترسل ما تشترك به في هذا المعرض وكأن الأمر لا يعنيها، وهناك مراكز بحث عربية لكنها لا تملك شيئاً وهي لا في العير ولا في النفير، وهذه حرب على الثقافة العربية، إذن الفصل بين الفكر والمال والفصل بين القرار السياسي وبين المفكر المتحدث نوع من الحرب الداخلية، ثم تأتي الهجمة الخارجية على أمتنا لتهزم جيلنا الموجود فقط، لأن ثقافتنا على المدى الطويل لن تنهزم، فهي ضاربة بجذورها في عمق التاريخ، والغازي لها لا يملك حضارة ولا ثقافة أقوى منها، وعلى سبيل المثال في عام 656 هجرية في القرن الثاني عشر الميلادي جاء المغول بقيادة جنكيزخان واجتاحوا البلاد كلها ومسخوا كل مظهر للحضارة الإسلامية والمسيحية ثم بعد ذلك يأتي النصر على يد دولة مملوكية، حيث كان الجيش المصري الذي يملك قيماً وثقافة ويملك قائداً يشترك مع جنوده في الفهم بثقافته وحضارته وقيمه ومبادئه في حرب غير متكافئة، ويكون النصر ودخول بلاد الشام، وتعود العراق وفارس، وكانت نهاية المغول، حيث كانوا قوماً ليست لهم ثقافة ولا فكر ولا مبادئ، ومن هنا دخلوا الإسلام فأصبحت لهم حضارة وفكر وقيم ومبادئ ونشروا الإسلام في الهند وغير الهند، لكن اليوم يدّعى الغزاة أنهم يريدون أن يفرضوا حضارة أمريكا حيث لا حضارة ولا قيم والرئيس خاتمي كتب عن حوار الحضارات وتلاقيها وليس الصدام الذي دعا إليه صمويل. 

 

فمستقبل الثقافة العربية وسط هذه الظروف أعتقد أنه لا يبشر بالخير فالثقافة لا تملك وسيلة تصل بها إلى أذهان الناس اذكروا كم عدد القنوات الفضائية العربية هذه كلها مجندة للدفاع عن الأنظمة العربية وتجمل وجهاً قبيحاً أمام الشعوب ـ والتماس المعاذير عن الفشل الذريع الذي وصل إليه اثنان وعشرون نظاما داخل الوطن العربي بدلا من أن يحكم براية واحدة وزعامة واحدة وسيادة واحدة وجنسية واحدة وسوق واحدة، وهل هذا سيؤدي إلى توصيل وازدهار الثقافة العربية ؟ بالطبع لا ـ هل استطعنا تجنيد القنوات لنشر ثقافتنا لفرنسا وإنجلترا وغيرها لتتبنى ثقافتنا ومبادئنا وحضارتنا وتسامحنا وسعة صدورنا؟ وتخلفنا الاقتصادي والتكنولوجي هل تسأل عنه الثقافة؟ الجواب معروف بالطبع لا، هذا التأخر الحضاري فينا هو المسئول عن هذا، وتفتح القنوات المختلفة فلا تجد إلا شيئاً واحداً مكرراً ومملولاً بلا تنوع ولا هدف ولا تنسيق كما يحدث في شهر رمضان حين نرى مسلسل ""الحاج متولي"" في كل الفضائيات العربية للأسف الشديد.

من هنا تحتاج ثقافتنا للتلاحم بين الشعب وحكامه وأن تتنازل الحكومات عن الوصاية على الثقافة، حتى يشارك المثقفون غير الرسميين مع الحكومات لخدمة الثقافة ولابد أن يتجرد المثقفون بلا حزبية يعني "" نحب الله والوطن"" ولنفكر في كيفية توصيل ثقافتنا إلى الآخرين حتى يتحول الغازي إلى ثقافتنا كما فعل المغول بعد هزيمتهم، أما ثقافتنا المحلية؛ فلا ينبغي أن يكون لكل قطر عربي ثقافته ولهجته المحلية، التي تختلف عن القطر العربي الآخر ويفضل خصوصياته على قوميته وثقافته العربية فنحن شركاء مصير واحد والخصوصيات يجب ألا تشغلنا والسيوف تتناوش ثقافتنا، أريد أن أقول: إن مستقبل الثقافة تحتاج إلى وسيلة دفع قوية نحن نملكها من مال وكتب ومطابع وغيرها.

 

وفي الخارج وجدت ندرة شديدة للكتب العربية، وبعض العرب يوزع مؤلفاته باللغات المختلفة وينفق ببذخ مع إهمال كتب التراث ودواوين الشعر المعروفة، وأموال تنفق على كتب لا تقدم طائلا ولا تعالج قضية ولا تبرز تاريخاً، وكل من ينفق على هذه الكتب هدفه أن يقال إن مؤلفاته ترجمت إلى لغات أجنبية متعددة ولكن أقول: إن الثقافة لن تموت وفي آخر المطاف سوف تنتصر بجهد أبنائها، فعدوُّها لا يحمل ثقافة ولا فكراً ولا قيماً، والعافية قد لا تلحقنا، ولكن أبشركم بأنها سوف تلحق الجيل الذي بعدنا، ولكم شكري الجزيل والسلام عليكم