الجمعة“ 26 أبريل 2024 - 11:55 ص - جرينتش

الحكم والحب ضدان مفترقان أي تفرق


  إفتتاحيات مجلة المثقف العربي 
  العدد رقم(37)    صدر بتاريخ (2004)
 
يلهث الواهمون من الحكام – عبثا – وراء الحب من شعوبهم ، ويزعمون وهما بأن شعوبهم تحبهم ومتمسكة بهم، ويبررون ذلك بأنهم قدموا لها ما لم تستطعه الأوائل، وعملوا وعاشوا وسيموتون من أجلها.
وأغرب من هذا الوهم أن يصدق الحكام طوابير نعم، وصح ، المحيطين من حولهم كما يحيط الطوق بالمعصم من ندماء، وسقاه، ومداحين، وموشو شين، يوهمونهم بأن الشعب مغرم بهم وعاشق لهم.
ولو قرأوا -ولكن للأسف الحكام لا يقرأون، وإذا قرأوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا يعملون.
لو قرأوا لوجدوا الحكيم العربي ابن الوردي يخاطبهم بقوله:
إن نصف الناس أعداء لمن  ولي الأحكام هذا إن عدل  

 ومتى يفهم الحكام بأنه ليس صحيحا ما ينقل لهم الزامرون من حولهم بأن الشعب يعيش حالة غرام وعشق بسيده ومولاه الحاكم ، ولو أدركوا لوجدوا حتى بنات الليل والهجير اللاتي يبعن أعراضهن لا يمنحنهم حبا وإنما يحببن أموالا بين أيديهم وأطماعا متعددة من خلالهم .
فلم يعد اليوم من يصدق وسائل الإعلام الرسمية بأن الزمان عجز أن يأتي بمثل الحاكم وأن النساء عجزن أن يلدن مثله.
ومع ذلك فرحلة التزوير ماضية وأعداد ووسائل الزمارين تتكاثر ذلك ما جعل الحكام لا يتغيرون إلا إلى الأسوأ أو رغما عن أنوفهم.

 إن وهم الجمع بين الحب والحكم سراب مسيطر على سماوات الزيف في آفاق العروش العربية. حتى إذا ما دار الزمان دورته وبلغ السيل الزبى، وتأججت ثورة الغليان وأتى يوم الرحيل عن قصور الحكم إلى منفى أو سجن أو قبر هناك فقط تتساقط الأقنعة ويكشف عن ساق ويتضح بأن "عبد حمود صدام" ما كان إلا نفعيا وماكان أمينا مع سيده، وكل أؤلئك الذين كانوا يطأطئون رؤوسهم ويغضون للحاكم أبصارهم ويتزلفون له نراهم فورًا يتحولون إلى شهود على سخفه وبطشه وظلمه.

إن الحكام العرب يعدون من أكثر زعماء العالم تمتعا بحظ كبير من كراهية الشعوب وحقدها. وهذا كلام لا يقبل الجدل إلا من مكابر، أوزمار لحاكم حي معاصر مازال في يده مال وجاه وسلطان. 
هناك عشرات بل مئات بل آلاف الأمثلة من الواقع ، لكن الاعتبار هو العنصر المفقود في حياة الباحثين عن حب وعشق الشعوب.
فوسائل نيل الحب والعشق مواهب حرم منها حكام الشعوب العربية وحباهم الله بديلا عنها مواهب ووسائل اكتساب العداوة والبغضاء.
ومن بين مئات الرسائل التي ترد إلي من الأقطار حمل البريد من العراق الملتهب رسائل ثلاث من طبيب نفساني وشاعرة وكاتب سياسي.

وهذا التنوع يمثل جزءا مهما من شرائح المجتمع العراقي، وفي هذه الرسائل تشخيص لردود فعل الشارع العراقي وهو ينظر إلى صدام حسين مكبلا بالسلاسل وحوله طابور الندماء في جلسة المحاكمة المعلنة على التلفزيون.
يقول الدكتور النفسي حازم برزان كردي في رسالته : صديقي الأديب، بالرغم مما يصيب العراقيين اليوم لما يفقدون من الأرواح يوميا في عمليات الرعب والخوف والانفلات الأمني التي تعيشها بلادنا سواء باسم المقاومة للاحتلال أو باسم الإرهاب لكن العراقيين لا يعيشون حالة الرعب والخوف والقلق والتوتر النفسي التي كانوا يعانونها في عهد صدام حسين ويعكس ذلك نسبة عدد الحالات المرضية نفسيا فقد انخفضت معدلات المرضى النفسيين بل إن بعضهم تحسنت أحوالهم بمجرد أن رأوا صدام حسين مسلسلا بالقيود.

 وتقول الشاعرة العراقية هيفاء محمد نعيم وهي سنية: سيدي الشاعر لا تشغل بالك بأحوال العراقيين فهم رغم المآسي المحزنة يرقصون ويقيمون حفلات الزفاف والمناسبات الاجتماعية كأن لا شيئ يحدث في العراق ما أوضح لك سيدي؟ إن ملامح الحزن الدائم والخوف والقلق تلك التي كانت على ملامح العراقيين طوال فترة حكم صدام قد زالت بزواله، وبالرغم من أنك ترى اليوم حمامات الدماء في المدن وفي الشارع على شاشات التلفزيون التي تجعلك تبادر لإزعاجي بالرسائل القلقة فإن ضحايا الطاغية لو وصلت لوسائل الإعلام لأصبت بالهستيريا ولما كتبت أشعارك إلا بدموعك إن في كل شارع اليوم نوا دب لضحايا بوش ولكن في كل دار نوادب لضحايا صدام، ولن يكون قادرا على الأخذ بالثأر منه إلا الله يوم القيامة أما في الدنيا فليس له فيها مليون عمر ومليون حياة حتى يعاقب بحرمانه منها.

 ويقول الكاتب خليل الزركاني من مناطق الشيعة في رسالته:أخي النبيل أود أن أكتب لك عن محاكمة صدام شيئا من هواجس الشارع العراقي بعيدا عن الفضائيات، وبداية أود أن أشير إلى أن هذه المحكمة ، آية من آيات الله العظمى . إن نزول الآيات قد انتهت بوفاة سيد الكائنات محمد صلى الله علية وسلم إلا أن محاكمة الطاغي كانت آية القرن الواحد والعشرين ,حيث فقد سلطانه وجاهه وقصوره وجبروته وقتل أولاده وتفرقت عائلته وأصبح كسيرا أسيرا وجالسا أمام القاضي يتوسل وقد كان يقتل الناس بهمسة أو نظرة فقط ,أما التهم فقالوا سبعا ، قل سبعين قل سبعمائة قل سبعة آلاف بل قل سبعمائة ألف بل قل سبعة ملايين لأن كل بيت في العراق يقول أين حقي من صدام؟!! 
ربما يكون قد انتهى عصر النمرود واختفى المرتزقة الذين نطلق عليهم اليوم أرامل صدام حسين. 
هل هذه الرسائل ومثلها آلاف تعكس درجة الحب أم البغضاء ؟ إنها نموذج حقيقي لاستطلاع رأي الشارع بعد رحيل الحاكم فهل آن الأوان أن يفكر طواويس العروش والقصور في كسب حب حقيقي ؟ أم أن رحلة النفاق ما تزال طويلة، وأن ليل الغرور ما يزال فجره بعيدا.

إن السفينة ما تزال طافية على سطح الماء ويمكن تداركها من الغرق . وأول الطريق إلى الحب: الصدق والوضوح والبحث الحقيقي عن محبين لا طامعين ومسئولين لا متسولين. يتوهم أغبياؤنا في الوطن العربي أن صورة الرئيس بوش في المجتمع الأمريكي مكروهة ومبغوضة ومغضوب عليها كما هي في الشعوب العربية، كلا ما يزال الأمريكيون يرون أن إدارة الرئيس بوش وأجهزة المخابرات الأمريكية كان بإمكانها أن تدس شيئا من مكونات أدلة الصناعة النووية في إحدى مواقع الجيش العراقي بعد أن دخلتها وتتخذها مبررا مقنعا لصواب قرار شن الحرب على العراق، لكنها لم تفعل ذلك وخافت أن تمارس الكذب مرة أخرى على شعبها الذي لا يملك جنة ولا نارا وإنما يملك صوتا انتخابيا حرا يُسْقِطُ به الرئيس إن هذه الحيلة التي كان بإمكان بوش وبلير أن يستخدماها- وذلك ما كنا نتوقع حدوثه قياسا على حال الأجهزة العربية الراشدة - لكنها لم تحدث لا خوفا من الله ولا من الزعماء والشعوب العربية، ولكن خوفا من الافتضاح أمام شعوبها التي ترى الكذب من الزعيم على شعبه جريمة لا تغتفر، لكن كذب الزعماء العرب وكوادرهم على الشعوب لا يسمى كذبا ولكن يطلق عليه سياسة حكيمة.

وأعترف - وأنا الغاضب من تحيز أمريكا لدموية إسرائيل وظلمها للفلسطينيين بأنني شعرت باحترام للرئيس بوش عندما قرأت له ردوده الصحفية على أسئلة مجلة باري- ماتش. الفرنسية أقتطف منها الآتي:
عندما سئل عن ممارسات الجيش الأمريكي والتعذيب والاغتصاب للعراقيين.
أجاب: أعترف أن شرف بلادنا تلوث بتصرف البعض.
وعلى سئوال يقول: لو كنت عراقيا ألا يمكنك اعتبار الاحتلال حملا ثقيلا؟ 
أجاب: بالطبع اعتبره كذلك وهذا ما أردده دائما وفي كل مكان أنا نفسي لن أتحمل أن أرى بلادي محتلة!!!
وعلى سؤال يقول: هل تعتبرون أن الذين يقومون بالعمليات كلهم إرهابيين؟
أجاب: لا: أنا موافق أنهم جميعا إرهابيون! إن الانتحاريين ليسوا إرهابيون ولكن مقاتلين آخرين ليسوا كذلك!! إنهم لا يتحملون الاحتلال ولا أنا ولا أحد يتمنى أن يكون مكانهم.
في هذه الانتقائية لبعض الإجابات البوشية ما يؤكد أن بوش يحترم حق شعبه ولا يجرؤ أن يمارس فترة ر آسية كاملة كذبا وتلفيقا ومغالطات. كما يحدث في بعض الشعوب العربية أن تمارس السياسة الكذب والمغالطات جيلا وأعمارا رئاسية كاملة.
ومن أجل كل ما ذكرت أظن أن ادعاء الجمع بين الحب والحكم في الوطن العربي ضرب من الخيال.
وأرى أن الأجهزة العربية لمتابعة الأشرار والمعارضين كثيرة ولن تنجح في صناعة حب وثقة بين الحاكم والشعب 
فأتمنى على الحاكم العربي إن أراد أن يحبه شعبه وأن يتمسك به أن يخصص جهازا واحدا من مخلصين لا منتفعين ليفتشوا عن المخلصين الأكفاء الصالحين ليعملوا على اكتشاف أسباب الحب الحقيقية بين الحاكم والمحكوم . 

الدكتور عبد الولي الشميري