إن الذين يغفلون فقه العصور، وحاجات الظروف المتغيرة بتغير الزمان، وتغير الإنسان هم الذين يجمدون، ويتصلبون وراء التمسك بالماضي زمانًا، وإنسانًا على نسخته الأقدم، وبعضهم يغالون بتشدد أكثر من حاجة العصر القديم الذي عاشه الإنسان القديم، والظروف القديمة، والوسائل، والأفكار التي كانت لذلك العصر، فيبقى الإنسان مشطورًا بين فكرية عقدية متينة تعلمها وتعودها في بيئةٍ مساعدة على التمسك بها، والتطبع عليها حتى صارت بكامل وقائعها اليومية، والليلية جزءً لا يتجزأ من سلوكه الشخصي، ومن عقيدته الروحية، وقناعاته الفكرية، فأضفى عليها صفة القداسة، وألحقها بالقيم الدينية، وتمسَّك من النصوص المقدسة بالحد الذي توصل إليه إنسان العصر القديم من الفهم والإدراك الذين كانا يتناسبان مع تلك البيئة والوسائل القديمة الأولى، بل لم يكلف إنسان عصرنا نفسه الانتقال بمفاهيمه، ومداركه الشخصية من عصر إلى عصر ولو في تحولات القرون الأولى، فظل في واحة العصر القديم الأول بروحه وقلبه ولسانه وعقله، ولم يرحل إلا بجسده الطيني فقط إلى العصر الحديث الذي تغيرت فيه كل قيم الحياة المادية، والفكرية والحضارية تغيرًا جذريًا إلى حد الإلغاء لكل الوسائل، وكل الممكنات القديمة، فأصبح مشطورًا نفسيًا، وحائرًا ذهنيًا بين ماضيه الفكري والحاضر المادي المعاصر، فتبنى الجدلية القائمة على نظريات تقوم على مفاهيم مختلطة بين الصواب والخطأ، وبين الحق والباطل، وبين التنوير والجمود، وبين الأصالة المطلقة، والرفض للمعاصرة، وحاجة الزمن التي تحتم الرحيل بالتصورات والوسائل، والسلوكيات، والقناعات آلافًا من السنين، وليس ألفًا واحدًا، مع عدم التفريط بالقطعيات المقدسة التي لا تقبل التفريط بها أو التنازل عنها، ونسبة هذه القطعيات التي لا تقبل الرحيل عنها أقل من الواحد في الألف، بل في المليون من قيم العصر، وحداثة الفكر، واستخدام الوسائل الجديدة.
ومن هنا يجب الأخذ بأوسع الأبواب التأويلية للنصوص المقدسة، والذهاب إلى أبعد مرامي الاجتهادات الفقهية التي يتحملها ظاهر النص وباطنه، حتى لا نحمل الأديان السماوية المقدسة ما لا تحتمل من الجمود، وأن لا نربط فهم نصوصها، وتأويل مدلولاتها عن حدود وسائل العصر القديم، وتفكير الإنسان القديم، وحاجة اليئة القديمة، وبالتالي فلابد من رفض ثقافة التجنب تخوفًا من مواجهة المسئولية، والخوف من الخطأ الاجتهادي، وحب السلامة من التصادم مع مدرسة الجمود التصوري، والتقليد السلفي، والعادات والأعراق التي تعودت بيئة النشأة عليها.
وإن كان من الشاق على النفس التحول من حالٍ إلى حال، ومن قناعةٍ إلى قناعة، ومن فهمٍ إلى فهم، بل من مذهبٍ تأويلي إلى مذهب، والأصعب من ذلك الأخذ بمذهب الجمع بين الأوسع والأبعد والأيسر من شتى المذاهب الصحيحة، والاستغناء عن الأضيق والأحوط والأقرب في شتى المذاهب الفقهية الصحيحة، بل والأشق من ذلك على النفس دعوتها للتوطن مع اجتهادات في مسائل لم يسبق أن طرقها أو فكر فيها أحد من قبل، خاصة عندما تأتي من غير قدوةٍ أو مرجعية فكرية أو دينية شهيرة، حتى ولو وافقت الصواب، ناهيك عما إذا كان الطلب منا أن نتحمل مسئولية التجديد، لكن مطالب العصر ليست هي مطالب العصر القديم، ولا حتى العصر الحديث، إنما هي مطالب المعاصرة اليومية، وضرورات مستجدة، حتمتها الاكتشافات العلمية الحديثة، والمدنية المتمازجة الجديدة، والمخالطة الضرورية التي لا يمكن لأجيال العصر الحاضر والتالي التراجع عنها، أو التقوقع وراء ماضٍ حضري لا حضاري، وبدوي لا عالمي، وإلا لوجد الإنسان نفسه العاجز عن التحرك بفكره وقناعاته نحو الحاضر، بل نحو المستقبل الأجد وحيدًا في فلاة القطيعة، يظن خطأً أنه يتعبد لله بها، وهو بذلك يخالف إرادة الله وفطرته التي فطر الناس عليها.
وقد يدعي التمايز الحفاظ على الإرثية لمقدسات روحية لا يجوز التفريط بها، ولم يكن الدافع لذلك الوهم أو الادعاء إلا عجزه عن التحرك في موكب التنوير نحو العصر والمعاصرة بأثقال الاجتهاد، وهموم الخوف من الخطأ، ونوازع حب التمسك بالتقليد المألوف.
إنني لا أخاطب بكلمتي هذه العامة من الناس الذين يميلون مع الواقع كيفما كان صحيحه وفاسده، ولا أخاطب بحديثي هذا المرجعيات الفكرية الثقافية، والمشائخ، والقسيسين، والحاخامات الذين تشرفت في هذا المساء بالحديث إليهم في رحاب هذه الجامعة الإنجيلية المباركة (كنيسة العذراء) لا من منطلق الأعلم، ولكن من منطلق الشراكة في تحمل الهم، وأدعو الأحبة الذين أقف بين أيديهم من أبناء الديانات السماوية الثلاثة، والباحثين عن الحق في معتقدات التمازج الاجتماعي الحضاري في هذه المدينة الفاتنة من الذين لم يرثوا أي عقيدةٍ أدعو الجميع أن يحافظوا على وحدتهم الروحية، والتعاون مع أتباع الجميع بحب ورحمةٍ، وصادق مودة، فالأديان جميعها، والفطرة السليمة، كما تعلمون داعيةً للحب الطاهر، لمن في السماء، ولمن في الأرض، وهو الأصل في دعوات الرسل جميعًا، وفهم البشرية الواعية، والاستثناء هو التشريعات للظروف الطارئة، والضرورات المؤقتة، التي هي من سمات وخصائص اختلافات البشر، والحاجة إليها لا تكون دائمة، ولا مستمرة، مثل تشريعات الحروب، وسنن المغالبة، إذ لا مكان لها ولا لزرعها اليوم في أذهان الأجيال المعاصرة، خاصة في المهجر البعيد من القارات الجديدة، فلا مكان ولا زمان اليوم لإحياء الحكايات عن صراعات البدايات العقائدية التي كان دافعها الرئيس عند المنصفين جميعًا هو صراع النفوذ أولا وأخيرًا.
لو تأملتم أيها الأحبة اشراقات النصوص المقدسة، ومدى سعتها العالمية، بل والكونية العلوية والسفلية، لأدركتم أن قناعاتي صحيحةً وفقًا لمطلب رباني واحد لم يختلف عليه دين مع دين، ولا حكيم مع حكيم، وهو المطلب الوجودي الواجب على كل الخلق، هو العقيدة بأن يومًا آخر يرجع الخلق إليه، للسلامة الأبدية المضمونة لكل من اعتقد في هذه الدار الأولى من حياتنا الدنيا بأن في ذلك اليوم ""لا ينفع مالٌ ولا بنونٌ إلا من أتى الله بقلبٍ سليم""، فاجتهدوا لتحقيق المصالح، وتمازجوا في التعايش بالمودة على أرض السلم والسلام من قارتكم الأمريكية الجنوبية، ولا تلقوا بأسماعكم، ولا أبصاركم إلى الشرق الملتهب بنيران الجهل، والطمع، والتقوقع، وصراعات النفوذ الجديدة، والجمود الفكري والعقدي الأصم، فالعبرة بالصواب والحق، لا بمكان ولا بإنسان، وتقربوا إلى مجتمعكم بما طلب الله منكم، وهو القلب السليم المعمور بالإيمان بالله، فالتمايز كالانغلاق في هذا العصر سواءً على مستوى الديانات، أو الأحزاب، أو الأمم من السلبيات في القيم الحضارية الحديثة، وقد يكونان سببًا مهمًا من الأسباب الإلغاء، والاستهداف، والاتهام.
لا أدعو بذلك إلى الذوبان الأخلاقي، ولا التحلل في كيمائي الانفلات المطلق، لكن أدعو إلى مجتمع عالمي يعيش مثاليات القيم في عالمٍ أوسع، وأرحب، وأنفع.
دوموا في رحاب التوفيق، مع أمان الله.