الأحد“ 19 مايو 2024 - 10:32 ص - جرينتش

الحضراني... الحاضر فينا أبد الشعر


مازال صدى صوته الأجش المتهدّج بمشارف التسعين يجلجل في مسامع القاعة الكبرى بجامعة الدول العربية منذ عام 2005م، حينما زارني في القاهرة، وتحدث على منبر منتدى المثقف العربي في القاعة الكبرى للمؤتمرات، وأنشد قصيدته:

الندامى وأين منى الندامى

ذهبوا يمنة وسرت شآما

ودّعنا في القاهرة، وما ودّعته القاهرة، ولا نخبها الثقافية، وأدباؤها، وشعراؤها، كما كان يودّعنا.

نعم فاجعة للشعر عظيمة أن يغيب الموت علما من أعلام الأدب الحديث في اليمن، وجلل أعظم حين يكون هذا المغيب هو الشاعر الكبير إبراهيم الحضراني..

فما كان قيسٌ هلْكُهُ هلكُ واحدٍ

ولكنّه بنيانً قومٍ تهدّما

لقد كان الحضراني وجه القصيدة في اليمن لما يزيد عن نصف قرن.. عاش بالشعر وللشعر، وفتحت له القصيدة فضاءات شتى حلق فيها بروحه الشفافة بكل فتوة واقتدار.

لم يكن عاشقا، ولا صوفيا، ولا مناضلا ثائرا، ولا راهبا مسكون بوجع القصيدة، ولكنه كان كل هؤلاء:

أنا ثورةٌ كبرى تلوحُ وتختفي

أنا مَن أنا؟ أنا جذوةٌ لا تنطفي

أنا روحُ جبّارٍ تئنُّ حزينةً

تحتَ الأسارِ وما لها من مسعفِ

أنا أنّةُ المسكينِ تأخذُ حقّهُ

كفُّ الغنيِّ وما له من منصفِ

أنا خطرة الصوفي في محرابه

عظمتْ ففاضتْ عن نطاقِ الأحرفِ

لا الدهرُ يسعفني بما أهوى ولا

هذا الحياةُ بها فؤادي يكتفي

تقتّح قلبه للقصيدة منذ أن تفتحت عيناه على الحياة، إذ نشأ في أسرة علم وأدب، فمنحها خلاصة نفسه ومحض هواه، وانتقلت معه من خربة أبو يابس إحدى قرى محافظة ذمار إلى مدينة ذمار حيث توسعت مداركه في المدرسة الشمسية، وزادت القصيدة من تجليها، وخاصة حين حمل على عاتقه هم الوطن المصلوب على جدار حكم كهنوتي متخلف.. لقد كانت القصيدة همسا.. فأصبحت ثورة.. وكان شاعرنا حالما كالنسيم.. فأصبح هادرا كالبراكين..

ولعل أهم إنجازات الرعيل الأول من الأحرار أنهم عملوا على تهذيب القابليات، وتطوير الجاهزيات، وكان الحضراني واحدا ممن تهذب وتطور على يد حركة الأحرار، كيف لا وهو صديق صدوق للزبيري، والنعمان، والشامي، والموشكي، وجمال جميل والفضيل الورتلاني، وبهؤلاء نضج الوعي الثورة لدى شريحة واسعة من المثقفين كان الحضراني واحدا منهم.

وقد تحولت القصيدة الحضرانية بعد تماهيها بالثورة من شبابة راع حالم في خربة أبو يابس إلى هزيم رعد وجلجة صواعق، وأصبح الحضراني في مدة وجيزة واحدا من شعراء الثورة يرفع صوته مدويا في وجه الإمام:

أيها الظالم اتئد

وعلى رأسك الوعيد 

لم تصن حق أمة

عشت في أهلها سعيد 

فلتزل عن طريقها

ثم دعها وماتريد 

قد سرت في نفوسنا

نشوة السؤدد المجيد

قسما لن نعيش في

أرض آبائنا عبيد

وإذا كان عدد من شعراء الثورة قد دشنوا ثورتهم الشعرية بمداهنة القصر، وتقربهم الأدبي للإمام طمعا في إصلاحه، فإن الحضراني لم يكن من هؤلاء، وكأن حاسته الشعرية وقفت به على حقيقة الظالمين الذين يرون في أنفسهم جنسا مميزا عن سائر الناس، فراح يشنّع عليهم وهمهم الكاذب الذي يسوقونه إلى أتباعهم صباح مساء، وراح يتمترس خلف القصيدة محاربا مقتدرا يوزع وثباته الشعرية على الثوار يمنة ويسرة، وحين وصل إلى اليمن الثائر الجزائري الفضيل الورتلاني كان الحضراني أحد مستقبليه، وهو وإن أخفى عتبه على الورتلاني كثائر لأنه تأخر بالقدوم، فلم يستطع إخفاء عتبه كشاعر، فراح يترنم بين يديه:

كادتِ الدارُ هذه إذْ نزلتم

سوحَها أن تشيد بالأشواقِ

فلماذا جفوتموها إلى أنْ

بلغتْ روحًها حبالَ التراقي

نحلتْ هيكلا وذابتْ فؤادا

ودبيبُ الفناءِ في الأعماقِ

ويستعد الثوار لنسيج حلمهم الأجمل، وتدب الحركة حذرة استعدادا لساعة الفصل، والحضراني بينهم شعلة متقدة لا يعرف الكلل والملل طريقا إلى نفسه، ولا الخور والجبن دربا إلى قلبه، وتُقدح شرارة ثورة الدستور، وتمضي عجلة الأيام إيذانا بمصرع الابتسامة، وسقوط الثورة على يد جلاد جديد، ويسحب الثوار إلى ساحات الإعدام وزنازين المعتقلات، ويلقى القبض على شاعرنا الحضراني، ليوضع في سجن حجة في كوكبة من الأحرار، وحين تدور طاحونة الموت رهيبة على رؤوس هذه الثلة من عظماء اليمن الحديث يأبى الشعر إلا ان يسطّر هذه اللحظات المهولة، وتأبى الشاعرية الحضرانية إلا أن تدلي بدلوها متلمسة في محيط الموت الرهيب معالم الشموخ والتضحية:

كم تعذبت في سبيل بلادي

وتعرّضت للمنونِ مرارا

وأنا اليوم في سبيل بلادي

أبذلُ الروح راضيا مختارا

وينتشر هذان البيتان في الثوار انتشار النار في الهشيم، فيزيد من تماسكهم وصلابتهم، ويترنم به عدد منهم وهم مقبلون على سيف الجلاد، ومقصلة الطاغية.

وحين جاء الدور على الرئيس جمال جميل وقع ذلك موقعا في نفس الشاعر الحضراني، وحز في نفسه ان يرى هذا الأسد الهصور مكبلا في أغلاله يجره عتاولة الظلم إلى مقصلة الموت في تراجيديا مهولة أحكم نسجها صنم متغطرس، وحين شعر الحضراني أنه وهو العاجز في أغلاله، القابع في زاوية سجنه لا يستطيع أن يغير من مشهد الموت شيئا، راح يحشد كل وعيه الفني والفكري في معركة رهيبة خاضها في مضمار القصيدة صارخا:

حتَّامَ يا وطني أراك تُضـــامُ

وعلى جبينك تُعبدُ الأصنــــامُ؟

وإلامَ يرتفعُ الطغاةُ ويعتلـــي

عرَش التبابع معشرٌ أقــــزامُ؟

وتظل يا مهد الجدود ممُزَّقًــا

بيد الخطوب تدوسكَ الأقــــدامُ

حتَّامَ يمضي للرزيّة والأســى

عامٌ ويأتي بالفجيعة عـــــامُ؟

اليوم بالزفرات عامٌ قد مضــى

ولَّى تُشَيِّع نعشَه الآثــــــامُ

ولَّى، وقد طعنَ السعيدةَ طعنــةً

برجالها الأحرار لا تلتـــــامُ

نُصبت على الأعواد فيه جهـرةً

جثث الأسود كأنها أغنـــــامُ

ثم يلتفت إلى صديق جهاده جمال جميل، فيذرف دموعه السخينة، ويتخلى عن ناريته الهادرة التي وسمت مطلع القصيدة، ويتحدث معه بصوت هامس تغمره الدموع وتثقله الزفرات:

(أجمال) ذكرك إذ يعود تعودُ لي

بين الجوانح زفرةٌ وضِــــرامُ

عجبًا لخطبك لم تُرع من هولـه

دُوَلٌ، ولم تُنَكسْ له أعــــلامُ

وتهزّ أعواد المنابر بالأســـى

هزًّا، وتسكبُ دمعَها الأقـــلامُ

ثم يصور لحظات خروج هذا البطل إلى ساحة الإعدام قوي النفس ثابت الجنان، واثق الخطوة يمشي ملكا، ولندع الحضراني نفسه يحدثنا عن هذه اللحظات الرهيبة التي تمثل سفرا ناصعا في تاريخ الثورة اليمنية:

خرجوا يقودون الرئيس كأنــه

مَلِكٌ وهم حولَ الرئيس سُــوامُ

أو أنه القمرُ المنيــــرُ يَزُفُّهُ

نحو المغيب من الظلام ظَــلامُ

شاهت وجوهُ الظالمين حِيالَـــه

وبدا الرئيسُ وثَغرهُ بسّــــامُ

ومشى إلى الفردوس مشيةَ مؤمنٍ

يحدوه للأجل المتاحِ غـــرامُ

ورنا إلى دار العلالة قائـــــلاً:

"يا مهبط الشُّورى عليك سلامُ"

لم يُنسه الحقَّ الذي من أجلــــه

وهبَ الحياةَ، الموتُ والإعدامُ

حتى إذا مثُل الهِزَبْرُ وأحدقـــت

فرقٌ مضَللَةٌ وسُلّ حُسامُ

والموتُ أُرجفَ والقضاءُ فأوجفـت

منه القلوبُ، وطاشت الأحلامُ

وتطلَّع التاريخ يكتب كلمــــةً

شَرفٌ له، لو حازها ووسامُ

وتهيأ المَلكُ الطهور يمــــدّه

من ذي السمــوات العلا إلهامُ

مدّت إليه من اللِّئام بــــوادرٌ

عن مثلها يترفعُ الأنعامُ

وقد مثّلت هذه القصيدة إلى جانب كونها انتصارا كبيرا أحرزه الشاعر المغلول في سجنه على عتاولة الظلم، مثّلت كذلك محاكمة شعرية ظلت الأجيال المتلاحقة تقرأ في سطورها ملامح الظلم، وقسوة الجبروت، ونذالة المجرمين من جهة، وتقر فيها من جهة ثانية عظمة الشهادة، وشموخ الجرح الراعف إباء وعزة.

شاعر الشجن

في قصيدة الحضراني على اختلاف عوالمها شجن عميق يشعرك وأنت تقرأه بخوالج نفس مثقلة بالوجع مسكونة بالشجن، تتقاطر حزنا ولوعة، وهذه السمة وإن كانت علامة فارقة لدى الشعراء الرومانسيين إلا أنها أصبحت مسحة عامة في النص الشعري العربي المعاصر، عكسته مرايا النص الشعري عن واقع الغربة والحنين الذي يعيشه الإنسان العربي في الراهن المعاصر بشكل عام والفنان بوجه خاص.

لقد استبدل الشاعر العربي المعاصر البكاء على الأطلال، والنوح على الدمن، بالبكاء على الذات المفقودة في محيط هائج بكل عواصف الموت الفكرية والسياسية وغيرها، ولملم الشاعر العربي صوته من زوايا محيط متشظٍ ليعيده هادرا إلى الأعماق في انكفاء فلسفي صوفي هامس، يصنع عوالمه من الانطلاق في عوالم اللامنظور، وينسج واقعه من مشارق التأمل، ويضع نفسه في مساقط الوجع حيث تولد القصيدة كائنا بشوشا ودودا يمسح عن الشاعر دمعته، ويضمد جروحه، ويغسل عنه كل أدران الواقع الكالح المزري.

النص الحضراني في مرحلته الأخيرة ولد في هذه المحاضن، ولنستمع إليه يقول في شجن شفيف:

الندامى وأين مني الندامـــى

ذهبوا يمنةً وصرت شآمــــا

يا أحباءنا تنكر دهــــــرٌ

كان بالأمس ثغره بسامــــا

ما علينا في هجره من مــلام

قد حملنا على الليالي الملامــا

وطوينا على الجراحٍ قُلـــوبًا

دميت لوعةً وذابت غرامـــا

سوف يدري من ضيَّع العهد أنّا

منه أسما نفسًا وأوفى ذمامـــا

نحن من لقّن الحمام فغنـــى

ومن الشوق عطَّر الأنسامـــا

قد بذلنا النفيس من كلِّ شــيءٍ

فجنينا الأوهام والأحلامــــا

يا ليالي الأحلام عودي فإنـــا

قد عشقنا بِرُغمنا الأحلامـــا

رددي حيث تنتهي ما بلغنـــا

من مرام ولا شفينا أوامـــا

ولأن هذا المحضن الفلسفي يتسع اتساع الشعر للحياة وللموت، فلقد سبق شاعرنا بيانات النعي، وقصائد الرثائين، وراح يرثي نفسه في همس رائع:

أنا ميت فمن يقول رثائي

بعدما غيب الردى أصدقائي؟

كيف أرثيهمُ بشعري وأنى

لجدير من بعدهم بالرثاء

مثخن كلما رمى الدهر سهماً

وهوى واحد تسيل دمائي.

مات الحضراني، وبقي شعره حياة أخرى تكتنز في تلافيفها تاريخ مرحلة من أهم مراحل التاريخ اليمني أدبا وثورة، رحمة الله تغشاه.

بقلم: الدكتور عبدالولي الشميري