الجمعة“ 29 مارس 2024 - 03:45 م - جرينتش

تأملات بين يدي مدينة العلم المؤرخ الأكبر إسماعيل الأكوع


تأملات بين يدي مدينة العلم المؤرخ الأكبر إسماعيل الأكوع

ليس ثمة ماهو أشد وجعا على القلب من فقد عزيز أثير، منحتَه محضَ ودِّكَ وخاصةَ نفسِكَ، وبادلكَ حباً بحبٍّ ووداً بودٍّ، ويزيد هذا الوجعُ مرارةً حين يكون هذا الفقيدُ قامةً عملاقةً التقتْ فيها الإنسانيةُ في أروعِ إشراقاتها مع العلم في أبهى تجلياته.. إنها فاجعةُ الفواجع.

هذا بالضبط ما استقر في نفسي وأنا أتلقى نعي الفقيد المؤرخ إسماعيل بن علي الأكوع رحمه الله، ولقد حاولتُ أن أكذِّب الخبرَ في نفسي، وأن أضعَ احتمالاتٍ أخرى بديلةٍ عن الموت، لكنَّ مثل هذه الاحتمالات لا تصمد كثيرا أمام حقيقة الموت:
طوى البسيطةَ حتى جاءني خبرٌ
فزعتُ فيهِ بآمالي إلى الكذبِ
حتى إذا لم يدعْ لي صدْقُهُ أملاً
شرقتُ بالدمعِ حتى كادَ يشرق بي

وبدون اختيار رحت أستدعي من تخوم الذاكرة ومضاتٍ من أيامٍ سلفتْ جمعتْني بالفقيد على بساطٍ أحمدي تُدار فيه كؤوس العلم مترعة وافية.. لقد بدأتْ علاقتي به منذ ما يزيد عن ربع قرن، ووجدت فيه مناقب قلَّ أن تجتمع في كيان واحد، من جميل التواضع، وطيب المعشر، وخفض الجناح، ووقارِ سمتٍ، وعفوية وبساطة، وابتسامة راضيةٍ لا تفارق شفتيه، إلى ما أكسبتْه حميميتُه الوثيقةُ بالكتابِ درساً ومطالعةً من تبحر في شتى العلوم، حتى لكأنك وأنت تجلس إليه؛ تجلس إلى كوكبةِ من العلماء المتخصصين، أو تتصفح موسوعة في شتى الفنون والمعارف تمشي على قدمين.
ولقد طرفته عيناي قبل في مدينة زبيد حينما كنت مهاجرا في رباط الإدريسي رحمه الله، ووفد إليها الفقيد العظيم ليجمع لدار الكتب اليمنية من مخطوطات زبيد، وكان يومها رئيسا للهيئة العامة للمخطوطات ودور الكتب، وأظن ذلك كان اللقاء الأول في عام 1974م، أو دونها بقليل، وسمعت يومها ابتهاج علماء زبيد بمقدمه، وثناء الناس عليه، كمنقذ للتراث العلمي من الضياع.

لقد عاش فقيدنا الغالي حياته مسكونا بالعلمِ، فكانت الكتبُ خيرَ جلسائه، وكان صريرُ قلمه لحنا عذبا يسكن إليه كلما أحس أنَّ هناك ما ينبغي كتابته، وثمة ميزة تميّز بها، جعلته امتدادا لمدرسة المؤرخ الحسن بن أحمد الهمداني، ألا وهي نزوله الميداني، واستقصاؤه للظاهرة التاريخية لا في بطون الكتب فقط، وإنما على الأرض، واستنطاقه للشواهد والآثار، وهذا ما جعله يعكف على تأليف كتابه (هجر العلم ومعاقله في اليمن) أكثر من أربعة عقود، زار فيها معظم هذه الهجر والمعاقل، وتحمّل وعثاء السفر، وقدَّم وصفا جغرافيا للهجر والمعاقل اليمنية جمعها من مناطق شتى في سفر واحد، فكان بحق كتابا فريدا في بابه، وكذا كان حاله مع كتابه (المدارس الإسلامية في اليمن) من قبل.
ولقد كان كتابه) هجر العلم ومعاقله في اليمن) المشار إليه بابا ولجت منه إلى مشروع عمري المتمثل في موسوعة أعلام اليمن الذي فرح به الفقيد الغالي أيما فرح، وشجعني عليه بشغف، وأسدى لي النصائح، وأرشدني إلى أمهات الكتب والمراجع التي تسدُّ حاجتي في هذا المشروع، وكنتُ كلما التقيتُه سألني عن الموسوعة؛ فأعطيه تقريرا عما تم، وعما تبقى، فلا ينفكُّ يقدم توجيهاته بصوته الهادئ الرصين تصويبا وإرشادا، مباركا كل إنجاز أحققه.

ولا تزال في الذاكرة صورا عديدة تتزاحم في ذهني حبا في هذا العالم الجليل، ولطالما زارني في رحاب مؤسسة الإبداع للثقافة والآداب والفنون، بعدما ضعف بصره لنتآزر مع باحثي المؤسسة على كتابة تعليقاته، وتحديث بعض كتبه التي يحرص على إعادة طباعتها، ومنها كتاب مخاليف اليمن، وكتاب الزيدية: نشأتها معتقداتها، وكتاب سدود اليمن الذي شرفت مؤسسة الإبداع بطباعته ونشره.
وأذكر أنني زرته قبل خمسين يوما من كتابة هذا المقال الأسيف الدامع، أشعر الآن أنها ستين جدارا جليديا أحكم الموت نسجها بيني وبينه، يتربع عليها ألم الفراق، ووحشة الفقد، وفاجعة الفراغ الكبير الذي تركه هذا الطود الباذخ جلالا وإنسانية.

لقد كنت أشعر وأنا بين يديه باسترخاء قبضتيه من التمسك بالحياة، وكاد الدمع يسبق لساني لولا مغالبته في حياء من زميلي السفير خالد إسماعيل الأكوع، الذي كان معنا في جلسة الوداع هذه.
لقد توفي العالم الأكوع إذا، ورزئت اليمن برحيله بمصاب جلل، وفقدت علما شامخاً عاش لليمن مجاهدا مخلصا، وعالما فاضلا، منح زهرة عمره للثورة، وانضم إلى قافلة الحرية، وكان أحد حداتها المخلصين مع الأستاذ محمد محمود الزبيري، والأستاذ أحمد محمد نعمان، وغيرهم ممن رفضوا الاستبداد، ورسموا معالم الحرية بعذاباتهم، وتشردهم، ودمائهم.
وإنني أتمنى على الجهات المختصة أن تتجاوز أطر النعي التقليدية إلى فعل رشيد في حق الفقيد، من الاهتمام بتراثه المعرفي، وإعادة طباعة مؤلفاته، وإطلاق اسمه على قاعات جامعية حتى يظل اسمه حاضرا في أروقة العلم والمعرفة.
رحم الله الأكوع عالما ومناضلا وإنسانا، ونسأل الله أن يثيبه عفوا ومغفرة وإحسانا، وأن يجمعنا به في مستقر رحمته، إنه على ما يشاء قدير.

بقلم: د. عبد الولي الشميري