الخميس“ 25 أبريل 2024 - 02:30 ص - جرينتش

تحاور مع حائر


إفتتاحيات مجلة المثقف العربي 

العدد رقم(35) صدر بتاريخ (2004)

 

ومهما كانت المشاعر غاضبة مما ترى وتسمع، إلا أن العقل الحكيم، والعلم الفهيم يقودان إلى لحظة تأمل منصفة وواعية إزاء كل ما جرى ويجري في شعبنا العربي الكبير، ويستفيق التأمل على قناعة صادقة بأن الجرح في الجسد العربي واحد، يتألم له الصغير والكبير والذكر والأنثى من المحيط إلى الخليج، ويقتسم الجميع كل حزن أو هزيمة وكل فقر أو اضطهاد ، وإن لم نتقاسم ونتشارك في السرور والثروة، ويستوي في ذلك الحاكم والمحكوم، والقائد والمقود، ولذلك فالوقت قد حان وأوشك على لحظة فوات الأوان لتتكاتف الأكف، ونقصر عن اللوم، ونكف عن تهييج مشاعر الغضب لدى هذا الشعب العربي الكبير، فما فيه يكفيه، ولست في شك من أن كل ما يتمناه أي مهتم بشئون أمته هو ذاته الذي يتمناه القادة والزعماء العرب. ولكن التمني غير مطلوب لشيء نقدر على تحقيقه، والمطلوب هو العمل الجاد المخلص لتحقيق الآمال. 

وما نيل المطالب بالتمني 

ولكن تؤخذ الدنيا غِلابا 

وما زالت بقية باقية من أطواق النجاة للخروج من خطر الغرق والعودة إلى الشاطئ الآمن في أيدينا ، وبالذات بأيدي قادة الأمة العربية، فإن أضاعوا الفرصة وانشغلوا بالشكليات، والتنافس على شعارات جوفاء قد ملها الناس وتململوا منها وعفى عليها الزمن، فستكون غلطة هتلر، وصدام حسين، ولكن المسئولية جماعية، وإن التلاحم المخلص، والانتظام في صف واحد ولو على مضض وضعف، خير وأجدى من التشرذم والشتات والتقوقع وراء السيادات القُطرية الضيقة، وبفارغ الصبر ننتظر ماذا ستسفر عنه قمة تونس المأمولة في قضية التقارب والتعاون العربي الملموس عمليا، والمنعكس على الشعوب العربية بشكل مباشر وسريع، وننتظر الموقف الجماعي للقادة العرب حول حجم دعم الشعب الفلسطيني، والتعاون على تخفيف مأساته الدائمة، ونرجو أن يضاف إلى دعم ميزانية السلطة الفلسطينية بند تعويض أهالي المنازل التي هدمتها إسرائيل وما زالت وستظل تهدم، ولو بالخمس مما يطالب به شارون من تعويض لأهالي المستوطنات التي يوهم العالم بأنه سينقلها من غزة. 

كما نأمل من ساداتنا وكبرائنا الزعماء أن يدعموا مالياً جهود جامعة الدول العربية لإبراز الوجه المشرف للمنتج والحضارة والثقافة العربية من خلال معرض فرانكفورت الدولي للكتاب، خاصة هذا العام لاختيار الوطن العربي ضيفاً للشرف في أبرز العارضين للمعرض العالمي ( عكاظ أوروبا ) والحديث عن الثقافة والحضارة حديث الساعة وجوهرة العام، كما أن قضية الحوار بين الثقافات والحضارات قضية تحتل الصدارة من رسالة ذلك المعرض المهم . 

وبمناسبة الحديث عن الحوار بين المثقفين والمفكرين العرب والمسلمين مع غير المسلمين في الغرب، أسوق حديثاً ربما يكون سائغاً وممتعا للمهتمين بهذا الشأن، أجريته مع الكاتب البريطاني المشهور بالتوتر في كتاباته ضد العرب قاطبة، وتحول الحديث إلى حوار حضاري في شتى قضايا الفكر، والحقائق التاريخية، لقد كان الحوار صريحاً ومريحاً حيث اتفقنا في آخره كما كنا مختلفين في أوله . 

السيد ( روبرت كيلروي سيلن فس ) كان قد أثار مشاعر العرب في الغرب، وخاصة في بريطانيا، وفي ولاية (ميتشجن) الأمريكية حيث تلقيت عدداً من الرسائل الإليكترونية الغاضبة من أصدقاء عرب يقيمون هناك، وكتب إلىَّ الصديقان العزيزان جورج، ومراد ابنا عبد الملاك بطرس رسالة مطولة في ملف كامل بالمقالات التي تناولت ذلك الكاتب بالرد، والمبارزة الجدالية باللغة الإنكليزية في صحف أمريكية بالتزامن مع ردود أخرى نشرت لعدد من الكتاب العرب في بريطانيا . 

غير أنهما أرسلا لي الردود ولم يرسلا المقال الذي وصف باليورانيوم المخصب، حتى وافاني البريد الإليكتروني من الصديق عبد العالم من بريطانيا الذي يصدر مجلة " صوت اليمن" Yemen Voice في محافظة ( ددلي ) بهلزوين . وفيه ذلك المقال الذي أوجع العرب، ودفع عبد العالم إلى مطالبتي بالرد وأن أُدلي بدلوي بين الدلاء، وهنا تساءلت مع النفس أولاً هل هذه سبل الحوار مع الآخر؟ ثم هل تجدي الردود في الصحف التي قد لا تصل أو لا يقرأها السيد "روبرت" ؟ وهل تفيد العرب أو العروبة تلك الردود الغاضبة التي تخدم المهاجم أكثر؟! حتى جاءت إجازة العيد وظرف المرض والتي سمحت بالسهر مع الشبكة العالمية الإنترنت بعد لأي باللقاء المباشر مع السيد روبرت . 

بالصوت والصورة بدأ الحديث بالتعارف بناءً على طلبي المسبق إليه، واستمعت إليه طويلاً، وهو يعرب عن غضبه من العرب ويؤكد أن مقاله المنشور بعنوان ( لسنا مدينين للعرب بشيء ) وفي يوم 17 يناير سنة 2004 إنما يمثل غيضاً من فيض، وأن كتاباً حافلاً أعده لمواجهة الغاضبين في المجتمع البريطاني والأوروبي خاصة ثم المجتمع الأمريكي من الحملة العسكرية على العراق وعلى حد قوله فإنه يدعو إلى حملة كبرى ليشن الحرب على دول العرب قاطبة. 

وقال أليس القضاء على الدول الاستبدادية البربرية العربية واستبدالها بحكومات ديموقراطية هدفا للحرب؟ 

وقال مؤكداً لمقالته : إن البترول العربي يُعد نعمة للغرب وقد منح للدول العربية، ولولا الغرب، واستكشافاته وتنقيبه وتسويقه وحمايته لما تمكن العرب من ركوب سيارة حتى الآن، ولما عرفوا حتى ركوب الطائرات التي سخروها لتدمير المدن على رؤوس الآمنين . وقال أي شيء حقاً قمتم به أيها العرب له قيمة تخدم البشرية أو يخدمكم؟! 

واستطرد قائلاً : حتى تقرير التنمية الذي أعدته الأمم المتحدة عن الدول العربية قرأتموه خطأ، وقد قرأت عدداً من المقالات بأن إجمالي الإنتاج للدول العربية لا يساوي إنتاج فنلندا الدولة الصغيرة، وعلق بقوله إلا أنكم أكبر دول العالم تصدرون الإرهاب والعنف . لماذا تكرهوننا ألأننا حررنا العراق، وندعم استقرار الشعوب في مصر والأردن؟ أم لأننا نمدكم بالدواء والتكنولوجيا، والعلم، ونعالج مرضاكم ؟ وفي غضب مستعر قال : نعم أنا الذي قلت من الأحرى للعرب أن يركعوا ويشكروا فضل الولايات المتحدة الأمريكية التي قتلوا منها ثلاثة آلاف برئ في 11 سبتمبر عام 2001، وقاموا بعمليات ضدها في اليمن ومومباسا، وكينيا، ولم تنتقم منهم بقدر ما يستحقون . هل تنتظرون أن نعجب بكم لأنكم قتلة وإرهابيون؟ وأحسن ما تحسنون صناعته هو العمليات الانتحارية؟ إن الشعوب العربية تحمل فكراً إرهابياً، وتريد تدمير العالم لأنها تعود بأفكارها إلى أساطير دموية غير مقدسة . 

اكتفى من كلامه الانفعالي بذكر هذا الجزء . 

وكان يتعجب من صمتي أمامه والاستماع إليه دون أن أقاطعه، وقال: لماذا لم تحاول مقاطعتي أو إسكاتي والرد عليّ ألم تحترق أعصابك من الصمت على ما تسمع؟ فالعرب يحبون المقاطعة لمن يتحدث، والرد بقنبلة إذا لم يسكت. فابتسمت في وجهه وقلت له: واصل الحديث إن كان لديك بقية فقال: ألا ترد علي؟ّ قلت له: لا، وإنما أنا مشفق عليك فترفق بأعصابك أولا،ً قال: هل أنت طبيب قلت له: لا وإنما عربي مسلم وللعروبة والإسلام قيم تعلمت منها أن لا أغضب، ولا أقاطع، وأن أشفق بحنان على المصاب بهستريا الجهل كما أشفق على المرضى بفيروسات المرض . 

فضحك طويلاً وطلب أن أواصل قلت له : هل قرأت شيئاً عن ( هتلر ) الأوروبي الذي تسبب في إبادة ستين مليوناً من بني البشر في حربه العالمية؟ قال: نعم كثيراً. قلت له: أليس أوروبيّا بل كان زعيماً بارزاً؟ قال بلى. قلت: لماذا لا تتحامل على أوروبا بكاملها لأنها أنجبت هتلر؟ فالناقد لابد أن يكون منصفا،ً فمقياس حرمة الأرواح واحد، وعدد قتلى هتلر الأوروبي في خمسة أعوام أكثر مائة مرة من قتلى العالم العربي وضحاياه خلال ألفي عام . 

فكيف حمّلت الأمة العربية بكاملها جرائم العالم ولم تُحمل الأمة الأوروبية بكاملها مسئولية أعمال هتلر ؟ 

وسألته ثانيا:ً هل قرأت تقرير الأمم المتحدة عن التنمية البشرية الذي تحدثت عنه قبل قليل؟ قال : نعم، وهو على مقربة من يدي. أجبته أنت إذاً تُحرف الكلام . 

التقرير لم يقل الناتج القومي العربي لم يبلغ مستوى الناتج القومي لفنلندا، وإنما قال صادرات الدول العربية مجتمعة لا تساوي صادرات فنلندا، والناتج القومي شئ والصادرات شيء آخر، فاستأذن لحظة لتناول التقرير وعاد يعتذر عن خطأ في فهم عبارات التقرير. وقبل أن يتداخل معي في أسئلة لماذا إذن الصادرات أقل ؟ عاجلته لا ندخل في الفكر الاقتصادي، فهذا ليس من أهداف هذا الحوار، ولكن سؤالك هذا قد أجبتني عليه عندما قلت إنكم أنتم أصحاب التكنولوجيا والعلم والاستكشافات والتنقيب، ولم تكمل القول بأن دولاً من عالم الغرب هي تحول ذلك النفط والثروة إلى مخزون احتياطي لها بمقابل تافه، وإذا وقف أي نظام عربي ليرفض الابتزاز لأي ثروة من قطر عربي فالدول التي أشرت إليها تبادر إلى احتلاله بتهمة النية لامتلاك أسلحة نووية وما تحرير أمريكا للعراق إلاّ طمعاً في نفطها وثروتها، وليس صحيحاً من أجل الحرية ورفع الظلم، وهنا قال: أتفق معك في كثير مما ذكرت. قلت: وأين أسلحة الدمار الشامل التي من أجلها أُبيد العراق؟! قال : سؤال محرج فعلاً ولكن لا سبيل إلى إزالة نظام صدام بوسيلة غير الحرب . 

قلت له: دعنا نتحدث عن شيء مهم كم مرة استخدمت أمريكا حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن؟ قال: لا أدري . قلت له استخدمته واحداً وسبعين مرة، منها ستون مرة لصالح إسرائيل وإحدى عشرة مرة لصالح أمريكا، فلو أفرزت متطرفاً واحداً فقط في كل مرة ، فإن أمريكا نجحت في تفريخ واحد وستين متطرفاً ممن استولت إسرائيل على ديارهم وأموالهم . 

وفي كل طائرة وهبتها لإسرائيل وعددها ألف ومائتا طائرة هجومية متطورة وخمسمائة مروحية على الأقل تولد من الغيظ منها ألف وخمسمائة إرهابي ممن قتلت إسرائيل أطفالهم وزوجاتهم بتلك الطائرات ؟ كل ذلك قبل 11 سبتمبر. 

أما هجوم أمريكا على مصنع أدوية إنسانية مفتوح للعالم في الخرطوم فهو عمل لا يغضب أحداً، بل كان يجب على الشعب السوداني أن يخرج وهو يرقص ويغرد ابتهاجاً بتدمير مصنع أدويته الأمل الوحيد في إنتاج عقار تخفيف حمى أعالي النيل، أكان ذلك عملاً إنسانياً ؟ وتابعت الحديث إليه هل أرواح الأطفال والنساء على الأقل غير المقاتلين متساوية؟ أم أن هناك تفاضلاً في أرواح بني البشر ؟ أجاب هو على السؤال : 

قال فوراً: لا تتحدث عن إسرائيل وفلسطين فالحديث صعب وشائك، قلت له: كمن يلعن الحمى في الجسد ويرفض تشخيص الفيروس المسبب، وهنا بيت القصيد وهنا مفرخة الإرهاب . 

قال: المشكلة خارج إطار النقاش . قلت: بل هي الإطار كله. وهنا بادرته بسؤال: لماذا عندما ذكرت حرصكم على دعم الاستقرار والأمن في الدول العربية لم تذكر إلا مصر والأردن فقط أليست بقية الدول لها حق كذلك؟ قال: لا . قلت: إذن لقد نسيت دولة أخرى ثالثة لم تذكرها. أجاب: هي ليست مهمة لأنها بعيدة عن بؤرة الصراع . قلت : ولكنها عربية ، ومعنى كلامك أن هناك بؤرة للصراع في منطقة ملتهبة بسبب وجود إسرائيل فهل نعالج السبب أم نتغاضى عنه ؟ 

وذهب الحديث طويلاً عن الحوار بين الإسلام والغرب هنا وهناك، واعترف بأن للإسلام سابق حضارة في الأندلس هي الوحيدة في عالم الإسلام، قلت له هل قرأت عن الحضارة الإسلامية وإنجازاتها وتعاملاتها . قال : لا. ولكني قرأت كتاباً مهما عن حضارات الشرق الأوسط لمؤلف يوناني واسم الكتاب "أرض الدين الواحد"، أجبته أهو للمؤلف ديفيد شمعة؟ قال: نعم . قلت : ذلك "يهودي إسرائيلي صهيوني" أيثبت في الكتاب أن الحق الأول في السيادة لأتباع ذلك الدين الواحد الذي وفد من الشرق الأوسط ؟ قال : أكيد . قلت : كيف أحاورك وأنت ترتدي نظارة سوداء داكنة؟ تجرد منها أولاً ثم انظر إليّ بعينيك لا بعيون ديفيد شمعة . قال : صدقني لم أفطن من قبل لدين ولا هدف هذا الكاتب . 

قلت: أُطالبك أن تفصل بين القومية الأوروبية والديانة المسيحية، فما تدعو إليه المسيحية لا يصلح لأمة تتطلع للغزو والاحتلال، وتقتل ستين مليوناً في حرب واحدة . والمسيحية تقوم على الحب والتسامح . 

قال : لا أستطيع ذلك . 

قلت : إذاً فلنتفق على عدم تحميل الديانة المسيحية سلوك هتلر المسيحي ولنفصل بينهما. قال: هذا هو الصحيح . 

قلت : ونتفق أيضاً على عدم تحميل الديانة الإسلامية سلوك صدام حسين المسلم، ولنفصل بينهما . قال: هذا صحيح .

قلت: طالما اتفقنا فعلى أي أساس بنيت مقالك المتحامل على العرب؟ 

قال: لأنكم تكرهوننا . قلت له: أنا عربي لا أكرهك، بل أميل إلى حبك. فضحك وقال: أعدك أن أتعرف على ثقافة المسلمين وأصول دينهم . 

قلت له: وأرجو ألا تتعرف من خلال أقلام صهيونية أو معادية، فالعقل أكبر منحة لكل من في الوجود، فلا يستحقه صدام حسين، ولا بوش، ولا ديفيد شمعة . 

وختام الحديث اتفقنا أن نقرأ معاً كتاب الإسلام والغرب للرئيس الراحل علي عزت بيجوفيتش- رحمه الله-. 

الدكتور عبد الولي الشميري